[ ص: 157 ] ما أجمع الفقهاء عليه من مسائل القياس ]
قال : الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم ، قال : وأجمعوا بأن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ; فلا يجوز لأحد المزني ; لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها . إنكار القياس
قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه : ومن صيد ما عدا المكلب من الجوارح قياسا على الكلاب ، بقوله : { القياس المجمع عليه وما علمتم من الجوارح مكلبين } .
وقال - عز وجل - : { والذين يرمون المحصنات } ، فدخل في ذلك المحصنون قياسا ، وكذلك قوله في الإماء : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ، فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور ، إلا من شذ ممن لا يكاد قوله خلافا ، وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام : { ومن قتله منكم متعمدا } . فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ ; وقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ، فدخل في ذلك الكتابيات قياسا ، وقال في الشهادة في المداينات : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } ، فدخل في معنى { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } ، قياسا المواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال .
وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين ، وقال عمن أعسر بما بقي عليه من الربا : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ، فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال ، وثبت ذلك قياسا .
ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا ، وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ، وقال : { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } .
ومن هذا الباب أيضا قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم ، وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان ، وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري ، قال : وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب .
[ جواب نفاة القياس ، ورده ]
قلت : بعض هذه المسائل فيها نزاع ، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف ، وقد [ ص: 158 ] رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية ; فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات ، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء ، وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله : { وما علمتم من الجوارح } ، وقوله : { مكلبين } ، وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد ، قاله مجاهد والحسن ، وهو رواية عن . ابن عباس
وقال أبو سليمان الدمشقي : مكلبين معناه معلمين ، وإنما قيل لهم مكلبين ; لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله : { فإنه رجس } ، وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف ، فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع ، وهم مضطرون فيها - ولا بد - إلى القياس ، أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم ، فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في { } ، إن ذلك مختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات ، هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس ; كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك ، وكذلك { قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن ألقوها وما حولها وكلوه } ، لا يفرق عالم يفهم عن الله ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب ، ومن هذا أن الله - سبحانه - قال في المطلقة ثلاثا { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } ، أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا والمراد به تجديد العقد ، وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط ، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول ، قياسا على الطلاق .
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم { } ، وقوله : { لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة } ، وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب ، بل يعم سائر وجوه الانتفاع ، فلا يحل له أن يغتسل بها ، ولا يتوضأ بها ، ولا يدهن فيها ، ولا يكتحل منها ، وهذا أمر لا يشك فيه عالم ; ومن ذلك { الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم } ، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط ، بل يتعدى النهي إلى الجباب والدلوق والمبطنات والفراجي والأقبية والعرقشينات ، وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوثة والطيلسان والقلنسوة ، وإلى الجوربين والجرموقين والزربول ذي الساق ، وإلى التبان ونحوه . نهي النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين
[ ص: 159 ] ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : { } ، فلو ذهب معه بخرقة وتنظف أكثر من الأحجار أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز ، وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة ، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز [ بل ] أولى . إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار
ومن ذلك { } ، ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة ، فلا يحل له أن يؤجر على إجارته ، وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام ، وهو بيع المنافع ، فحقيقتها غير حقيقة البيع ، وأحكامها غير أحكامه . أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته
ومن ذلك قوله - سبحانه - في آية التيمم : { وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها الغائط ، والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس على قول من فسره بما دون الجماع ، وألحقت الاحتلام بملامسة النساء ، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده ، وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم ; فجوزت له التيمم وهو واجد للماء ، وألحقت من خشي المرض وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها . وتعليق الحكم به وكونه متعلقا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها ; فمن الناس من يتنبه لهذا ، ومنهم من يتنبه لهذا ، ومنهم من يتفطن لتناول العمومين لها .
ومن ذلك قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } . وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر ، والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه ، فإن استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر ; فلا عموم في ذلك ; فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي ، فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة ; ومن ذلك أن لما باع خمر سمرة بن جندب أهل الذمة وأخذه في العشور التي عليهم فبلغ فقال : قاتل الله عمر ، أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { سمرة } ، وهذا محض القياس من لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها رضي الله عنه ; فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين ، وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام . عمر
[ ص: 160 ] ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة قياسا على ما نص الله عليه من قوله : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ، قال أنا عبد الرزاق : عن سفيان بن عيينة محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عن سليمان بن يسار عبد الله بن عتبة بن مسعود عن رضي الله عنه قال : ينكح العبد اثنتين عمر بن الخطاب
وقال : أنبأنا عبد الرزاق سفيان الثوري قالا : ثنا وابن جريج جعفر بن محمد عن أبيه أن - كرم الله وجهه في الجنة - قال : ينكح العبد اثنتين . وذكر الإمام علي بن أبي طالب عن أحمد قال : سأل محمد بن سيرين الناس : كم يتزوج العبد ؟ فقال عمر بن الخطاب : ثنتين ، وطلاقه ثنتان ، وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد . عبد الرحمن بن عوف
وقال محمد بن عبد السلام الخشني : حدثنا ثنا محمد بن المثنى عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث بن أبي سليم قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين . عطاء
وروى عن حماد بن زيد عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس أن قال : لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرا ونصفا ، فسكت . عمر
وقال عبد الله بن عتبة عن : عدة الأمة إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين . وروى عمر عن ابن عيينة محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عن سليمان بن يسار عبد الله بن عتبة عن : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق طلقتين ، وتعتد الأمة حيضتين ، وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا ، وقال عمر : عدة الأمة حيضتان ، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف . علي
والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم نصفوا ذلك قياسا على تنصيف الله - سبحانه - الحد على الأمة .
ومن ذلك أن الصحابة قدموا في الخلافة وقالوا : رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة ، وكذلك اتفاقهم على [ ص: 161 ] كتابة المصحف وجمع القرآن فيه ، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد ، وكذلك منع الصديق عمر من بيع أمهات الأولاد برأيهما ، وكذلك تسوية وعلي بين الناس في العطاء برأيه ، وتفضيل عمل برأيه ، وكذلك إلحاق الصديق حد الخمر بحد القذف برأيه ، وأقره الصحابة ، وكذلك توريث عمر رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه ، ووافقه الصحابة ، كذلك قول عثمان بن عفان في { ابن عباس } ، قال : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ، وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه عمر لما ورثا الأم ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج ; فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم ، فقدرا أن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال ، وهذا من أحسن القياس ; فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى كالأولاد وبني الأب ، وإما أن تساويه كولد الأم ، وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة ، فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله ، وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم ، وقد { وزيد } ، وهذا محض العدل ، على أن تخصيص بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس من العدل . قال النبي صلى الله عليه وسلم للغرماء : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك