مسألة قال في كتاب المحيط " : إذا أراد أن ينتحل نحلة الشيخ أبو محمد الجويني أو غيره فلا بد له من نوع اجتهاد ، وسهل ذلك على العامي ، فإنه إذا قيل له : فلان يتبع السنن وفلان يخالفها بالرأي والاستحسان ثم قال بعد كلام له : خرج لنا من هذا أن الجهال ممنوعون من التقليد في شيئين : ( أحدهما ) أصل التوحيد ، و ( الثاني ) أصل المذهب . وقال الشافعي الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : اختلف الناس فيما اختلف فيه العلماء أنه ما الذي أوجب على قوم اختيار مذهب من المذاهب [ ص: 342 ] دون غيره ؟ فذهب أصحاب داود ومالك وأكثر أصحاب وأحمد إلى أنا إنما رجعنا إلى مذاهبهم والأخذ بأقاويلهم والعمل بفتاواهم تقليدا له ، ولا يجب الفحص والبحث عن الأدلة . ومنهم من قال بصحة قولهم دون قول غيرهم . أبي حنيفة
وهذا لا يصح ، لأنه لا يمكن أن يدعي لأحد منهم العصمة في جميع ما ذهب إليه وقاله ، فإن هذه مرتبة الأنبياء . قال : والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا أنا إنما صرنا إلى مذهب لا على طريق التقليد ، وإنما هو من طريق الدليل ، وذلك أنا وجدناه أهدى الناس في الاجتهاد ، وأكملهم آلة وهداية فيه ، فلما كانت طريقته أسد الطرق سلكناه في الاجتهاد والنظر في الأحكام والفتاوى ، لا أنا قلدناه : أما في اللغة ومقتضيات الألفاظ فلأنه كان أعلم الأئمة بذلك ، بل قوله حجة في اللغة . وهو أول من صنف في الأصول . قال الشافعي : لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد أحمد . وأما في الحديث فقد فزع أصحابنا من أن يذكروا فضله على غيره مخافة أن لا يقبل منهم لأجل مالك ، ومنه أخذ الشافعي ، وليس كما زعموا بل جميع ما عول عليه الشافعي حفظه مالك وزاد عليه بروايته عن غيره . فهذا يدل على أنه كان أقدم في هذه الصنعة من الشافعي وكذلك مالك . وأما الآي والسنن والآثار فكان أعلمهم بها . انتهى . أحمد
قال : ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا ممنوع ، إلا أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الاجتهاد المطلق . وذلك خلاف المعلوم من أحوالهم . وذهب ابن الصلاح الإمام والغزالي إلى أن هو الذي يجب على كل مخلوق عامي تقليده ، وتابعهما على ذلك طائفة . وذهب الشافعي إلى أنه لا يقلد إلا الصحابة والتابعون ، فإن كان لا بد [ ص: 343 ] من غيرهم تقليدا فيتعين ابن حزم من أصحاب محمد بن نصر المروزي وأطنب في وصف الشافعي ، وهذا لا يخرج من مذهب محمد بن نصر ، فكأن الشافعي يدعي أنه إن كان لا بد من تقليد فليقلد مذهب ابن حزم . قال : والتقليد إنما ابتدئ به بعد المائة والأربعين من الهجرة ، ولم يكن في الإسلام قبل ذلك مسلم واحد فصاعدا يقلد عالما بعينه لا يخالفه . قال الشافعي ابن المنير : وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم . وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها : ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها . فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره .
وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين لأجل غلبة العادة ، فلا يكاد يسع ذهن أحد من أصحابه لتفضيل غير مقلده إلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين جاءت الإشارة بقوله تعالى : { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } يريد - والله أعلم - أن كل آية إذا جرد النظر إليها قال الناظر حينئذ : هذه أكبر الآيات ، وإلا فما يتصور في آيتين أن تكون كل واحدة أكبر من الأخرى بكل اعتبار ، لتناقض الأفضلية والمفضولية . والحاصل أن هؤلاء الأربعة انخرقت بهم العادة ، على معنى الكرامة ، عناية من الله بهم ، فإذا قيس أحوالهم بأحوال أقرانهم كانت خارقة لعوائد أشكالهم .