الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة فلو التزم مذهبا معينا ، كمالك والشافعي ، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر ؟ فيه مذاهب : ( أحدها ) : المنع ، وبه جزم الجيلي في الإعجاز ، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع ، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا التشهي ، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين . و ( الثاني ) : يجوز ، وهو الأصح في " الرافعي " ، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين ، لأن السبب - وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله ، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب . ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين . بل يقوى القول بالانتقال في صورتين : ( إحداهما ) : إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء ثم فعله ناسيا أو جاهلا ، وكان مذهب مقلده [ ص: 376 ] عدم الحنث فخرج منه لقول من أوقع الطلاق ، فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث قطعا .

                                                      ولهذا قال الشافعي : إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام . و ( الثانية ) : إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا ولم يجد في مذهب إمامه دليلا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه ، فلا وجه لمنعه من التقليد حينئذ محافظة على العمل بظاهر الدليل . وأما ما نقله بعض الأصوليين من الإجماع على منع رجوع المقلد عمن قلده فهو - إن صح - محمول على تلك المسألة بعينها بعد أن عمل بقوله فيها . واعلم أنا حيث قلنا بالجواز فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة . وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا ، إذ لا طريق له إليه .

                                                      ولهذا قال البغوي : لو أن عاميا شافعيا لمس امرأته وصلى ولم يتوضأ وقال : عند بعض الناس الطهارة بحالها ، لا تصح صلاته ، لأنه بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي ، فأشبه ما إذا اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى جهة فأراد أن يصلي إلى غيرها لا يصح ، قال : ولو جوزناه لأدى ذلك إلى أن يرتكب جميع محظورات المذهب ، كشرب المثلث ، والنكاح بلا ولي ونحوه ، ويقول : هذا جائز ، ويترك أركان الصلاة ويقول : هذا جائز ، ولا سبيل إليه . انتهى . و ( الثالث ) : أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا ، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره ، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره .

                                                      و ( الرابع ) : إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب ، وإن حدث وقلد إماما في حادثة وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه . واختاره إمام الحرمين ، لأن قبل تقرير المذاهب ممكن ، وأما بعد فلا ، للخبط وعدم الضبط . [ ص: 377 ] و ( الخامس ) : إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز . قاله القدوري الحنفي . و ( السادس ) : واختاره ابن عبد السلام في " القواعد " - : التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أو لا ، فإن كان الأول فليس [ له ] الانتقال إلى حكم يجب نقضه ، لبطلانه ، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال ، لأن الناس لم يزالوا [ كذلك ] في عصر الصحابة ، إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة ، من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره ، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه .

                                                      وقال في " الفتاوى الموصلية " - وقد سئل عن شافعي حضر نكاح صبية لا أب لها ولا جد والشهادة على إذنها له في التزويج - فأجاب : إن قلد المخالف في مذاهب جاز ، وإلا فلا . ويوافقه قول النووي في " الروضة " في النكاح بلا ولي ولا شهود أنه يجب مهر المثل ، سواء اعتقد التحريم أو الإباحة ، باجتهاد ، أو تقليد ، أو حسبان ، أو مجرد . و ( السابع ) : - واختاره ابن دقيق العيد - الجواز بشروط : ( أحدها ) أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها ، كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى . ( والثاني ) ألا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع به . ( والثالث ) انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه . ودليل اعتبار هذا الشرط قوله : { والإثم ما حاك في نفسك } فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم .

                                                      بل أقول : إن هذا شرط جميع التكاليف وهو ألا يقدم الإنسان على ما يعتقده [ ص: 378 ] مخالفا لأمر الله . ولا اشتراط أن يكون الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي ، بل إذا كان مخالفا لظاهر النصوص بحيث يكون التأويل مستكرها ، فيكفي في ذلك عدم جواز التقليد لقائل القول المخالف لذلك الظاهر . انتهى . ونقل القرافي عن الزناتي من أصحابهم الجواز بثلاثة شروط : ( أحدها ) أن لا يجمع بينهما على صورة تخالف إجماع المسلمين ، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود . و ( الثاني ) أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلده في عمله . و ( الثالثة ) أن لا يتبع رخص المذاهب . قال : والمذاهب كلها مسلك إلى الجنة ، وطرق إلى الخيرات ، فمن سلك منها طريقا وصله . انتهى .

                                                      وحكى بعض الحنابلة هذا الخلاف في أن الأولى الأخذ بالأخف أو الأثقل . ثم قال : والأولى أن من بلي بوسواس أو شك أو قنوط فالأولى أخذه بالأخف والإباحة والرخص ، لئلا يزداد ما به ويخرج عن الشرع ، ومن كان قليل الدين كثير التساهل أخذ بالأثقل والعزيمة لئلا يزداد ما به ، فيخرج إلى الإباحة . ومر بي أن عبد الله بن المبارك سئل عمن حلف بالطلاق ألا يتزوج ثم بدا له ، فهل له أن يأخذ بقول من يجوز له ذلك ؟ فقال : إن كان يرى هذا القول حقا أن يبتلى بهذه المسألة فنعم ، إلا فلا . وما أحسن هذا الجواب من متورع ، وقسم بعضهم الملتزم لمذهب إذا أراد تقليد غيره إلى أحوال : ( إحداها ) : أن يعتقد - بحسب حاله - رجحان مذهب ذلك الغير في تلك المسألة ، فيجوز اتباعا للراجح في ظنه . ( الثانية ) أن يعتقد مذهب إمامه ، أو لا يعتقد رجحانا أصلا ، لكن [ ص: 379 ] في كلا الأمرين - أعني اعتقاده رجحان مذهب إمامه ، وعدم الاعتقاد - يقصد تقليده احتياطا لدينه ، كالحيلة إذا قصد بها الخلاص من الربا ، كبيع الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها ، فليس بحرام ولا مكروه ، بخلاف الحيلة على غير هذا الوجه حيث يحكم بكراهتها .

                                                      ( الثالثة ) أن يقصد بتقليده الرخصة فيما هو محتاج إليه ، لحاجة لحقته ، أو ضرورة أرهقته ، فيجوز أيضا ، إلا إن اعتقد رجحان مذهب إمامه ويقصد تقليد الأعلم فيمتنع ، وهو صعب . والأولى : الجواز . ( الرابعة ) ألا تدعوه إلى ضرورة ولا حاجة ، بل مجرد قصد الترخص من غير أن يغلب على ظنه رجحانه ، فيمتنع ، لأنه حينئذ متبع لهواه لا للدين . ( الخامسة ) أن يكثر منه ذلك ويجعل اتباع الرخص ديدنه ، فيمتنع ، لما قلنا وزيادة فحشه . ( السادسة ) أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع ، فيمتنع . ( السابعة ) أن يعمل بتقليده الأول ، كالحنفي يدعي شفعة الجوار فيأخذها بمذهب أبي حنيفة ، ثم تستحق عليه فيريد أن يقلد مذهب الشافعي ، فيمتنع ، لتحقق خطئه إما في الأول وإما في الثاني ، وهو شخص واحد مكلف .

                                                      تنبيهات الأول - ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجوز قبل العمل ولا بعده بالاتفاق . وليس كما قالا ، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد [ ص: 380 ] العمل أيضا ، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ؟ ، لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف ما لم يظهر له غيره ، والعامي لا يظهر له ، بخلاف المجتهد ، حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة . وفصل بعضهم فقال : التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك ، كالحنفي يقلد في الوتر ، ومن الحظر إلى الإباحة ليفعل ، كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز ، والفعل والترك لا ينافي الإباحة ، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله ، فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد . وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة فقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد .

                                                      وليس في العامي إلا هذه الأقسام . نعم ، المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه ، لأنه حينئذ محض تشه . والثاني - ظاهر كلامهم جريان هذا الخلاف في تتبع الرخص وغيرها . وربما قيل : اتباع الرخص محبوب ، لقوله عليه السلام : { إن الله يحب أن تؤتى رخصه } . ويشبه جعله في غير المتتبع من الانتقال قطعا ، خشية الانحلال . وحكى ابن المنير عن بعض مشايخ الشافعية أنه فاوضه في ذلك وقال : أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول : كل مجتهد مصيب ، وأن المصيب واحد غير معين ، والكل دين الله ، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله ، قال : حتى كان هذا الشيخ - رحمه الله - من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلا - في حنث ينظر في واقعته ، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي ولا يحنث على مذهب مالك قال لي : أفته أنت .

                                                      يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعا . كان ينظر أيضا في فساد الزمان وأن الغالب عدم التقيد ، فيرى أنه إن شدد على العامي ربما لا يقبل منه في الباطن ، فيوسع على نفسه ، فلا مستدرك ولا تقليد ، بل جرأة على الله تعالى واجتراء على المحرم . قلت : كما اتفق لمن سأل التوبة وقد قتل تسعا [ ص: 381 ] وتسعين . قال : فإذا علم أنه يئول به إلى هذا الانحلال المحض فرجوعه حينئذ في الرخصة إلى مستند وتقليد الإمام أولى من رجوعه إلى الحرام المحض . قلت : فلا ينبغي حينئذ إطلاق القول بالجواز مطلقا لكل أحد ، بل يرجع النظر إلى حال المستفتي وقصده . قال ابن المنير : في الحكايات المسندة إلى ولد ابن القاسم حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام فاستفتى أباه ، فقال له : أفتيك فيها بمذهب الليث كفارة يمين ، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك . يعني بالوفاء ، قال : ومحمل ذلك عندي أنه نقل له مذهب الليث لا أنه أفتاه به ، وحمله عليه علمه بمشقة المشي على الحالف أو خشية ارتكاب مفسدة أخرى ، فخلصه من ذلك ثم هدده بما يقتضي تحرزه من العادة . قلت : وربما كان ابن القاسم يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة ، وأما بالتشهي فلا . قال : وكانت هذه الوقائع تتفق نوادر ، وأما الآن فقد ساءت القصود والظنون وكثر الفجور وتغير إلى فتون ، فليس إلا إلجام العوام عن الإقدام على الرخص ألبتة . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية