مسألة وأما المقلد فقال المجتهد يجوز له الإفتاء أبو الحسين البصري وغيره : ليس له الإفتاء مطلقا . وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها . فذهب الأكثرون إلى أنه إن تحرى مذهب ذلك المجتهد ، واطلع على مأخذه ، وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى ، وإلا فلا . ونقله القاضي حسين عن القفال . قال القاضي : وله أن يخرج على أصوله . إن لم يجد له تلك الواقعة . قال الروياني : وأصل الخلاف أن تقليد المستفتي هل هو لذلك المفتي ، أو لذلك الميت ، أي : صاحب المذهب ؟ وفيه وجهان : فإن قلنا : " للميت " فله أن يفتي ، وإن قلنا : " للمفتي " فليس له ذلك ، لأنه لم [ ص: 360 ] يبلغ مبلغ المجتهدين .
وقال العلامة مجد الدين بن دقيق العيد في " التلقيح " : توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم ، أو استرسال الخلق في أهوائهم . فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به ، لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده . وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا . هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك فعل - رضي الله عنه - حين أرسل علي المقداد في قصة المذي . وفي مسألتنا أظهر ، فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة . وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم . انتهى .
وقال آخرون : إن عدم المجتهد جاز له الإفتاء ، وإلا فلا . وقيل : يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله ، أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه . ولا يجوز له تقليد الميت . وجعل القاضي في " مختصر التقريب " الخلاف في العالم ، قال : وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي . انتهى .
قال الماوردي والروياني : إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها ، فهل له أن يفتي لغيره ؟ فيه أوجه ، ثالثها : إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز ، وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز . قال : والأصح : أنه لا يجوز مطلقا ، لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها . وقال الجويني في " شرح الرسالة " : من حفظ نصوص وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ، ولا يكون من أهل الفتوى ، ولو أفتى به لا يجوز . وكان الشافعي القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب ، لأنه يقلد صاحب المذهب وقوله . ولهذا كان يقول أحيانا : لو اجتهدت وأدى اجتهادي [ ص: 361 ] إلى مذهب فأقول : " مذهب أبي حنيفة كذا ، ولكن أقول بمذهب الشافعي " ، لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب أبي حنيفة فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره . قال الشيخ الشافعي أبو محمد : وهذا ليس بصحيح ، واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه ، ونص يدل عليه . الشافعي
وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير ، ومن حكى مذهب الغير - والغير ميت - لا يلزمه القبول ، لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله ، كما أن ولهذا قلنا : إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعام مثله . فإن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان قلت : أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه ؟ قلنا : كما زعمتم ، لكن هذا الرجل لم يقلده قول هذا الرجل بأن الأمر فيه كيت وكيت ، فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده . ويدل على فساد ما قاله أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي . ويلزمه مثله . ولجاز أن يقول : هو مقلد صاحب المقالة . ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا .
أما إذا فإن كان متبحرا فيه جاز ، وإلا فلا . قال : وكان أفتى بمذهب غيره ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب ، وكان متبحرا ، لأنه حكى أن أصحاب مالك كانوا يأتونه بمسائل يسألونه إخراجها على أصل مالك فيستخرجها على أصله فدل على أنه من كان بهذه الصفة يجوز ، وإلا فيمتنع . وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي . قال : والعلوم أنواع : أحدها - الفقه : وهو فن على حدة ، فمن بلغ فيه غاية ما وصفناه فله أن يفتي ، وإن لم يكن معه من أصول التوحيد إلا ما لا بد من اعتقاده ليصح إيمانه . وثانيها - علم أصول الفقه : وما زال مالك الأستاذ أبو إسحاق يقول : هو [ ص: 362 ] علم بين علمين ، لا يقوى الفقه دونه ، ولا يقوى هو دون أصول التوحيد ، فكأنه فرع لأحدهما أصل للآخر ، فيخرج من هذا أن لا نقول : أصول الفقه من جنسه حتى لا بد من ضمه إليه ، لكن لا يقوم دليله دونه . وثالثها - تفسير القرآن : وكل ما تتعلق به الأحكام فليس ذلك من شأن المفسر ، بل من وظيفة الفقهاء والعلماء . وما يتعلق بالوعظ والقصص والوعد والوعيد فيقبل من المفسرين . والرابع - سنن الرسول : لا يقبل من المحدثين ما يتعلق بالأحكام ، لأنه يحتاج إلى جمع وترتيب ، وتخصيص وتعميم وهم لا يهتدون إليه . وقد حكي عن بعض أكابر المحدثين أنه سئل عن امرأة حائض ، هل يجوز لها أن تغسل زوجها ؟ فقال لهم : انصرفوا إلى سويعة أخرى ، فانصرفوا وعادوا ثانيا وثالثا حتى قال من كان يتردد إلى الفقهاء : أليس أيها الشيخ رويت لنا عن { أنها غسلت رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حائض عائشة } ؟ فقال : الله أكبر ، ثم أفتى به . انتهى .
وقد سبق آخر الكلام على شروط الاجتهاد كلام لابن دقيق العيد ينبغي استحضاره هنا .