وأورد على الحصر أمور : أحدها : احتمال النسخ ، فإن السامع إذا جوز على حكم اللفظ أنه منسوخ فلا يجزم بثبوته . الثاني : احتمال التقييد . الثالث : احتمال الاقتضاء ، فإن قوله عليه السلام { } لما علم أن كلا منهما غير مرفوع لوقوعه في الأمة فلا بد وأن [ ص: 126 ] يكون مراده عليه السلام شيئا آخر لئلا يلزم كذبه ، وهو غير معلوم من ظاهر الكلام ، فقد نشأ الخلاف في فهم مراد المتكلم من غير الاحتمالات الخمسة . وأجيب عن الأول بأن رفع عن أمتي ، وقد صرح بذلك النسخ داخل في التخصيص الإمام ، وفيه نظر ; لأنه لا عموم في الأزمان ، والأمر لا يقتضي بصيغته فعل المأمور أبدا . والحق في الجواب أن . فإن قيل : قد تنسخ التلاوة وليست معنى . قلنا : نسخها أيضا عدم جواز تلاوة ذلك المنسوخ . قاله النسخ من عوارض الأحكام لا الألفاظ الأصفهاني . وعن الثاني بأنه قريب من التخصيص ، وعن الثالث بأن على رأي جمع من الأصوليين منهم الاقتضاء راجع للإضمار أبو زيد الدبوسي ; لأن كلا منهما عبارة عن إسقاط شيء من الكلام لا يتم الكلام بدونه نظرا إلى العقل أو الشرع أو إليهما لا نظرا إلى اللفظ . فأما من قال : إنه مغاير للإضمار فنقول : إن الخلل الناشئ من احتمال الاقتضاء ، مثله الناشئ من احتمال الإضمار ، فكان ذكره مغنيا عن ذلك . وعند التحقيق فالعوارض المخلة بالفهم ترجع إلى احتمال الاشتراك والمجاز ، ولهذا اقتصر وغيره على ذكرها ; لأن النقل والإضمار والتخصيص يرجع للمجاز ، فإن المجاز يكون بالنقصان ، والعام إذا خص يكون مجازا في الباقي على الصحيح . فإذن المراد بالمجاز الأعم من ذلك لا المقابل للإضمار والتخصيص ، فإن كان الكلام في هذه المحتملة من حيث الجنس فلا حاجة لذكر الإضمار والتخصيص ; لأنهما من أنواع المجاز فيندرجان تحت مطلقه . وعلى هذا فالأحوال ثلاثة ، وإن كان الكلام فيها من حيث النوع فلا شك أن أنواع المجاز لا تنحصر في خمسة . ابن الحاجب
[ ص: 127 ] وأجيب بأن المراد التوسع ، واقتصر على هذين من بين سائر الأنواع لغلبتهما في الكلام على أنه سبق خلاف في أن الإضمار ليس بمجاز ، والتخصيص أيضا كذلك ، فإنه فعل المخصص وليس بلفظ حتى يحكم عليه بالحقيقة والمجاز . وقد أورد على موضع المسألة شيئان : أحدهما : أن هذه الاحتمالات ليس شيء منها مخلا بالفهم ; لأن الظن حاصل مع تجويزها ، إنما الممتنع القطع . وأجيب بأن المقصود أن كل واحد منها مخل بالفهم على تقدير إرادته مع عدم القرينة كإرادة المجاز مع عدمها ، فإنه يخل بالفهم ويوقع في الحقيقة . والثاني : أن الإضمار والتخصيص نوعان من أنواع المجاز فكيف جعلهما مقابلين له ؟ وأجيب بأن المراد التوسع واقتصر على هذين من بين سائر الأنواع لغلبتهما في الكلام على أنه سبق خلاف في أن الإضمار ليس بمجاز ، والتخصيص أيضا كذلك ، فإنه فعل المخصص ، وليس بلفظ حتى يحكم عليه بالحقيقة أو المجاز ، ثم التعارض الذي يتصور وقوعه بين هذه الاحتمالات الخمسة يقع على عشرة أوجه ، وهذه ; لأن التعارض لا يتصور إلا بين الشيئين ; لأن الشيء لا يعارض نفسه فكل واحد من هذه الاحتمالات الخمسة إنما يعارض الأربعة الأخيرة فيها فتضرب الخمسة في الأربعة فحصل عشرون وجها من التعارض ، لكن العدة مكررة فيجب حذفها بنفي عشرة تكرر بعبارة أخرى ، وهو أنه قد يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة فيحصل أربعة أوجه ، ثم من تعارض النقل مع الثلاثة الباقية ثلاثة أوجه صارت سبعة ، ثم من تعارض المجاز مع الباقين وجهان صارت تسعة ثم من تعارض المجاز مع التخصيص وجه واحد فصار المجموع عشرة .
[ ص: 128 ] وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
تجوز ثم إضمار وبعدهما نقل تلاه اشتراك فهو يخلفه وأرجح الكل تخصيص وآخرهم
نسخ فما بعده قسم يخلفه
[ ص: 129 ] وقد استشكل تصوير ، فإن الاشتراك إنما يكون عند استواء حالاته في دلالته على المعنيين أو المعاني ، والمجاز إنما يكون حيث يكون دلالته في أحدهما ضعيفة والأخرى قوية ، واللفظ إنما يصير منقولا إذا يطلب دلالته الأولى وارتفعت . وأجيب بتصور ذلك في لفظ استعمل في معنيين ، ولم يعلم تساوي دلالته عليهما ولا رجحانها في أحدهما ، فيحتمل حينئذ أن يكون استعماله فيهما بطريق الاشتراك أو بطريق النقل ، أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر على السواء . الثالث : التعارض بين الاشتراك والنقل والمجاز ; لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في صورة واحدة وهي إرادة المعنى الإضماري بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره ; إذ ليس البعض منه أولى من البعض الإضمار أولى من الاشتراك
الرابع : ; لأن التخصيص خير من المجاز ، والمجاز خير من الاشتراك ، والخير من الخير خير ، فكان التخصيص خيرا من الاشتراك ، وعلم من هذه الأربعة أن الاشتراك أضعف الخمسة . الخامس : التخصيص خير من الاشتراك ، لاستلزام النقل نسخ الأول وتغيير الوضع ، كدعوى المجاز خير من النقل المعتزلة أن الصلاة منقولة إلى الأفعال ، والجمهور قالوا : مجازات لغوية ، وهو أولى . السادس : ; لأن الإضمار مساو للمجاز ، والمجاز أولى من النقل . السابع : الإضمار أولى من النقل ; لأنه خير من المجاز ، والمجاز خير من النقل . وعلم بهذه المسائل الثلاث أن النقل أضعف من الثلاثة بعد . الثامن : التخصيص خير من النقل ففيه ثلاثة مذاهب قيل : [ ص: 130 ] المجاز أولى لكثرته ، وبه جزم في " المعالم " واختاره إذا وقع التعارض بين الإضمار والمجاز الهندي ، وقيل بالعكس ، وقيل هما سواء ، واختاره في " المحصول " وتبعه في " المنهاج " لاحتياج كل منهما إلى قرينة تمنع من فهم ظاهر اللفظ ، وكما أن الحقيقة تعين على فهم المجاز كذلك تعين على فهم المضمر . وحاصله : أن هذين نوعا مجاز ، فينبغي ذكره في ترجيح أنواع بعض المجاز على بعض . التاسع : ; لأن الباقي من أفراد العام بعد التخصيص يتعين بخلاف المجاز ، فإنه ربما لا يتعين ، ومن هاتين المسألتين يعلم أن المجاز أضعف من الإضمار والتخصيص . العاشر : التخصيص أولى من المجاز ; لأنه خير من المجاز والمجاز مساو للإضمار على ما في " المحصول " ، كقوله تعالى { التخصيص خير من الإضمار ولكم في القصاص حياة } فهذا خطاب خاص للورثة ; لأنهم إذا اقتصوا حصلت الحياة لهم بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم ، أو هو عام والمشروعية مضمرة ; لأن الناس إذا علموا مشروعيته كان أنفى للقتل فيها بينهم ، وهذا مثال ، وإلا فالراجح الاحتمال الثاني .