ثم ، لأن محبة الجمال نشأت عن جمال الإله ، ومحبة الإنعام والإفضال نشأت عما صدر منه من إنعامه وإفضاله ، والتعظيم والإجلال أفضل من الكل ، لأنهما نشآ عن معرفة الجلال والجمال فنشآ عن جلال الله وكماله وتعلقاته فلهما شرف من وجهين اثنين ، ومن أطلعه الله على أوصاف غير هذه الأوصاف ، فنشأت عنها أحوال تناسبها غير هذه الأحوال لا يمكنهم العبارة عنها ، إذ لم توضع عبارة عليها ولا الإشارة إليها ، فإن دلالة الإشارة دون دلالة العبارة ، فإن للأكابر علوما خارجة عن العلم الضروري النظري وهم فيها متفاوتون ولحضور هذه المعارف المذكورة في القلوب رتب أعلاها أن تبدأ القلوب من غير سعي في استحضارها واكتسابها ، فيصدر عنها الأحوال الناشئة لها ، ثم تدوم بدوامها وتنقطع بانقطاعها ، وهذا ثابت للنبيين والمرسلين في أغلب الأحوال والقليل من الأبدال . المحبة الناشئة عن معرفة الجمال أفضل من المحبة الناشئة عن معرفة الإنعام والإفضال
الرتبة الثانية : أن يستحضرها العبد باستجلابها واستذكارها حتى تحضر وينشأ عنها أحوالها اللائقة بها ويختلف الناس في ذلك : فمنهم من تستمر [ ص: 215 ] عليه هذه المعارف ، فتستمر به الأحوال الناشئة عنها ، وهذا دأب الأولياء ، ومنهم من تنقطع عنهم هذه المعارف والأحوال على الفور من استحضارها وهذا حال مثلنا وأمثالنا ، ومنهم من يقع انقطاعها بين هاتين الرتبتين وهم يتفاوتون في سرعة الانقطاع وبطئه .
الرتبة الثالثة : من لا تحضره هذه المعارف والأحوال الناشئة عنها إلا بسبب خارج ، ولهم رتب .
أحدها : من تحضره المعارف وأحوالها عند سماع القرآن ، وهؤلاء أفضل أهل السماع .
الرتبة الثانية : من تحضره المعارف والأحوال عند سماع الوعظ والتذكير ، وهؤلاء في الرتبة الثانية .
الرتبة الثالثة : من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع الحداء والنشيد ، وهذا في الرتبة الثالثة لارتياح النفوس والتذاذها بسماع المتزن من الأشعار والنشيد ، وفي هذا نقص من جهة ما فيه من حظ النفس .
الرتبة الرابعة : من تحضره هذه المعارف والأحوال المبنية عليها عند سماع المطربات المختلف في تحليلها كسماع الدف والشبابات ، فهذا إن اعتقد تحريم ذلك فهو مسيء بسماعه محسن بما يحصل له من المعارف والأحوال ، وإن اعتقد إباحتها تقليدا لمن قال بها من العلماء فهو تارك للورع باستماعها محسن بما حضره من المعارف والأحوال الناشئة عنها .
الرتبة الخامسة : من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع المطربات المحرمة عند جمهور العلماء كسماع الأوتار والمزمار فهذا مرتكب لمحرم ملتذ النفس بسبب محرم ، فإن حضره معرفة وحال تناسب تلك المعرفة ، كان [ ص: 216 ] مازجا للخير بالشر ، والنفع بالضر ، مرتكبا لحسنات وسيئات ولعل حسناته لا تفي بسيئاته فإن انضم إلى ذلك نظر إلى مطرب لا يحل النظر إليه ، فقد زادت شقوته ومعصيته .
فهذه رتب من تحضرهم المعارف والأحوال بسبب ما يستمعونه ، أفضل هؤلاء لأن سببهم أفضل الأسباب ، ويليهم من يستمع الوعظ والتذكير إذ ليس فيه غرض للنفوس حاصل من الأوزان ، ويليهم من يستمع الحداء والأشعار ، لما فيه من حظ النفوس بلذة سماع موزون الكلام ، فإنه يلتذ به المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، وليس لذة النفوس بذلك من أمر الدين في شيء ، ويليهم من يسمع المطربات المختلف في تحريمها للاختلاف في قبح سببه ، ويليهم من يسمع ما ذهب الجمهور إلى تحريمه ، لأنه أسوأ حالا ممن تقدمه . فالمستمعون بالقرآن