واختلف في جواز على قولين: هما روايتان، عن طلاقها في الطهر المتعقب للحيضة التي طلق فيها أحمد أشهرهما عند أصحاب ومالك: [ ص: 503 ] المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك الحيضة، ثم تطهر كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. مالك:
والثاني يجوز طلاقها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، في الرواية الأخرى. وأحمد
ووجهه: أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز أيضا طلاقها فيه، لو لم يتقدم طلاق في الحيض، ولأن في بعض طرق حديث في الصحيح ابن عمر وفي لفظ ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا . ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع في قبل عدتها
وفي لفظ وفي حديث فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعها ثم طلقها لطهرها أبي الزبير: . وكل هذه الألفاظ في "الصحيح". وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك
وأما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بإمساكها حتى تحيض، ثم تطهر ثم تحيض، ثم تطهر. وقد تقدم.
قالوا: وحكمة ذلك من وجوه:
[ ص: 504 ] أحدها: أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإن الله سبحانه إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها، ولم شعث النكاح، وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا، فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق.
قالوا: وقد أكد الشارع هذا المعنى، حتى إنه أمر في بعض طرق هذا الحديث بأن يمسها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة، فإذا حاضت بعده وطهرت، فإن شاء طلقها قبل أن يمسها، فإنه قال : . مره فليراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها
ذكره وقال: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء، لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في الطهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه، حتى تحيض ثم تطهر، فاعتبرنا مظنة الوطء ومحله، ولم يجعله محلا للطلاق. ابن عبد البر،
الثاني: أن فلو طلقها عقب الرجعة من غير وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، فإن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب عليها من العدة، وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها، أو من الحيضة الأخرى، على الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك الحيضة كانت في معنى من طلقت ثم راجعها [ ص: 505 ] ولم يمسسها حتى طلقها، فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين، لأنها لم تنقطع بوطء، فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه هنا، لم يزل بطلاقها عقب الحيضة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع حكم الطلاق جملة بالوطء، فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء، فإذا وطئ حرم طلاقها، حتى تحيض ثم تطهر. الطلاق حرم في الحيض لتطويل العدة عليها،
ومنها: أنها ربما كانت حاملا، وهو لا يشعر، فإن الحامل قد ترى الدم بلا ريب - ، وهل حكمه حكم الحيض، أو دم فساد ؟ على الخلاف فيه، - فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام، ثم حيض تام، فحينئذ يعلم هل هي حامل أو حائل ؟ فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل، وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحقيق علمهما بذلك، نظرا للزوجين، ومراعاة لمصلحتهما، وحسما لباب الندم. وهذا من أحسن محاسن الشريعة.
وقيل: الحكمة فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاء له على ما فعله من إيقاعه على الوجه المحرم.
ورد هذا بأن لم يكن يعلم التحريم. ابن عمر
وأجيب عنه بأن هذا حكم شامل له ولغيره من الأمة، وكونه رضي الله عنه لم يكن عالما بالتحريم يفيد نفي الإثم، لا عدم ترتب هذه المصلحة على الطلاق المحرم في نفسه.
[ ص: 506 ] وقيل: حكمته أن الطهر الذي بعد تلك الحيضة هو من حريم تلك الحيضة، فهما كالقرء الواحد، فلو شرع الطلاق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد، وليس هذا بطلاق السنة.
وقيل: حكمته أنه نهى عن الطلاق في الطهر، ليطول مقامه معها، ولعله تدعوه نفسه إلى وطئها، وذهاب ما في نفسه من الكراهة لها، فيكون ذلك حرصا على ارتفاع البغيض إلى الله، المحبوب إلى الشيطان، وحضا على بقاء النكاح، ودوام المودة والرحمة، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: وفي اللفظ الآخر: ثم ليطلقها طاهرا هل المراد به انقطاع الدم، أو التطهر بالغسل، وما يقوم مقامه من التيمم ؟ على قولين، هما روايتان، عن فإذا طهرت فليطلقها إن شاء أحدهما: أنه انقطاع الدم وهو قول أحمد. والثانية: أنه الاغتسال. الشافعي.
وقال إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم، وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء، إما أن تغتسل، وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي، وإما أن يخرج عنها وقت صلاة، لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها. أبو حنيفة،
وسر المسألة أن الأحكام المترتبة على الحيض نوعان:
[ ص: 507 ] منها ما يزول بنفس انقطاعه، كصحة الغسل والصوم، ووجوب الصلاة في ذمتها. ومنها ما لا يزول إلا بالغسل كحل الوطء، وصحة الصلاة، وجواز اللبث في المسجد، وصحة الطواف، وقراءة القرآن على أحد الأقوال، فهل يقال: الطلاق من النوع الأول، أو من الثاني؟
ولمن رجح إباحته قبل الغسل أن يقول: الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب، يحرم عليها ما يحرم عليه، ويصح منها ما يصح منه، ومعلوم أن المرأة الجنب لا يحرم طلاقها.
ولمن رجح الثاني أن يجيب، عن هذا بأنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها، ويحتج بما رواه في "سننه" من حديث النسائي قال: سمعت المعتمر بن سليمان عبيد الله، عن عن نافع، عبد الله: . وهذا على شرط "الصحيحين"، وهو مفسر لقوله: " فإذا طهرت " فيجب حمله عليه. أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مر عبد الله فليراجعها، فإذا [اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا] اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء