الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فضيلة السجود .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقرب العبد إلى الله بشيء أفضل من سجود خفي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة . وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعلني من أهل شفاعتك وأن يرزقني مرافقتك في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : أعني بكثرة السجود وقيل إن أقرب ما يكون العبد من الله تعالى أن يكون ساجدا وهو معنى قوله عز وجل واسجد واقترب وقال عز وجل سيماهم في وجوههم من أثر السجود فقيل : هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض عند السجود وقيل : هو نور الخشوع فإنه يشرق من الباطن على الظاهر وهو الأصح ، وقيل : هي الغرر التي تكون في وجوههم يوم القيامة من أثر الوضوء .

التالي السابق


(فضيلة السجود) :

يقال: سجد سجودا إذا تطامن، وكل شيء ذل فقد سجد، وسجد الرجل: وضع جبهته في الأرض، والسجود لله تعالى عبارة عن هيئة مخصوصة، وإنما لم يذكر فضيلة الركوع لكونه ملحقا بالسجود؛ إذ لا يكون السجود إلا بعد الركوع، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقرب العبد) ، وفي رواية: العباد (إلى الله بشيء أفضل من سجود خفي) ، أي: من صلاة نفل في بيته؛ حيث لا يراه الناس. قال المناوي : وليس المراد هنا السجود المنفصل عن الصلاة كالتلاوة والشكر، فإنه إنما يشرع لعارض، وإنما المراد سجود الصلاة، أخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية أبي بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب بن صهيب مرسلا. قال العراقي: وابن أبي مريم ضعيف، وقد وهم الديلمي في مسند الفردوس في جعل هذا من حديث صهيب رضي الله عنه، وإنما ه وحمزة بن حبيب بن صهيب، وهو وهم فاحش، قال: وقد رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق عن ابن أبي مريم عن حمزة مرسلا، وهو الصواب اهـ .

وقال في موضع آخر: هذا حديث لا يصح، قال المناوي : [ ص: 18 ] وهذا يفيد أن عمل السر أفضل من عمل العلانية، ومن ثم فضل قوم طريق الملامتية على غيرها من طرق التصوف، وهي تعمير الباطن فيما بين العبد وبين الله تعالى. قال صاحب "العوارف": الملامتية قوم صالحون يعمرون الباطن ولا يظهرون في الظاهر خيرا ولا شرا، ويقال فيهم النقشبندية، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. قال الفاكهي: ومن تعمير الباطن اشتغاله بالذكر سرا سيما في المجامع، وبه يرقى إلى مقام الجمع، وفي لزوم كلمة الشهادة تأثير في نفي الأغيار وتزكية الأسرار، وفي كلمة الجلالة عروج إلى مراتب الجلالة، ومن لازم ذلك صار من أهل الغيب والشهادة، وآل أمره إلى أن تصير كل جارحة منه تذكر الله يقظة ونياما .

قال العارف أبو العباس المرسي: من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، وعبد الله سواء عليه أظهره أم أخفاه اهـ .

وهو سياق حسن، إلا أن جعل النقشبندية من الملامتية غير صحيح، فإن بينهما بونا بعيدا، ولقد كان المصنف رحمه الله تعالى ممن أخذ على أبي بكر الروذباري، وهو أحد مشايخ النقشبندية، ومن أصول سلسلتهم ومبناهم على أسرار الذكر وإخفائه في المجامع وغيرها، وهذا الاسم حدث لهم فيما بعد، ومن طالع كتب القوم ظهر له الفرق التام، والله أعلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة.) وفي نسخة: "خطيئة" بدل "سيئة"، قال العراقي: أخرجه ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، ولمسلم نحوه من حديث ثوبان وأبي الدرداء اهـ .

وبخط تلميذه الحافظ: ليس في مسلم ذكر السيئة، نعم هو عند أحمد في هذا الحديث .

قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة والعقيلي من حديث أبي ذر: "ما من عبد يسجد لله سجدة أو يركع ركعة إلا حط الله عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة". وعند الطبراني في "الأوسط" من حديثه: "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة، وكتب له بها حسنة". وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة رفعه: "اعلم أنك لن تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة". وأخرج ابن يونس في تاريخ مصر من طريق ابن لهيعة عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن أبي فاطمة الأزدي رفعه: "يا أبا فاطمة إن أردت تلقاني فاستكثر من السجود بعدي". ورواه ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن كثير الصدفي عنه رفعه: "يا أبا فاطمة أكثر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة، يا أبا فاطمة إن أحببت أن تلقاني فاستكثر من السجود بعدي". قال ابن يونس: ولا أعلم لأهل مصر عنه غير هذا الحديث الواحد .

(وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعلني من أهل شفاعتك وأن يرزقني مرافقتك) ، وفي نسخة صحيحة من الكتاب: "ادع الله أن يرزقني مرافقتك". (في الجنة، قال: أعني) ، أي على نفسك (بكثرة السجود) . قال العراقي: أخرجه مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي نحوه، وهو الذي سأله ذلك اهـ .

قلت: وروى الطبراني عن جابر هذه القصة فقال: "كان شاب يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويخف في حوائجه، فقال: سلني حاجتك فقال: ادع الله لي بالجنة، فرفع رأسه فتنفس فقال: نعم، ولكن أعني بكثرة السجود". وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: "لولا ثلاث لأحببت أن لا أبقى في الدنيا: وضع وجهي للسجود لخالقي من الليل والنهار، وظماء الهواجر، ومقاعد أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة.

(وقيل: أقرب ما يكون العبد من الله تعالى) ، أي: من رحمته (أن يكون ساجدا) ، أي: حالة سجوده، وهو كما يأتي قريبا، في آخر الباب، حديث أبي هريرة أخرجه مسلم بهذا اللفظ، (وهو معنى قوله عز وجل) في آخر سورة العلق، (واسجد واقترب) ، أي: دم على سجودك، أي: صلاتك واقترب من الله تعالى، وهذا قول مجاهد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وسعيد بن منصور في سننه عنه قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ألا تسمعونه يقول: واسجد واقترب ، (وقال عز وجل) في آخر سورة الفتح في وصف المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو مكتوب في التوراة، بل وصفهم به قبل أن يخلق السموات والأرض ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) ، أخرج الطبراني من حديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا من أمته، فأرجو [ ص: 19 ] أن أكون يومئذ أكثرهم كلهم، وإن كل رجل منهم يومئذ قائم على حوض ملآن، معه عصا يدعو من عرف من أمته، ولكل أمة سيما يعرفهم بها نبيهم". كذا في "الدر المنثور"، وقد اختلف في تفسير هذه الآية على أقوال، (فقيل: هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض) من التراب والغبار (عند السجود) ، وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة، ونصه عند البغوي : هو أثر التراب على الجباه، قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز كما سيأتي، ويروى عن سعيد بن جبير أنه قال: هو ندى الطهور وثرى الأرض .

وهكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر، ومحمد بن نصر عنه، (وقيل: هو نور الخشوع) قال مجاهد : ليس الأثر في الوجه، ولكن الخشوع، هكذا أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن جرير ومحمد بن نصر عنه، وفي رواية عنه قال: "الخشوع والتواضع" .

وهكذا أخرجه ابن المبارك وعبد بن حميد ومن بعده، ويروى عن ابن عباس أنه قال: "ليس الذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه". كذا رواه محمد بن أبي طلحة الوالبي عنه، ويروى عنه أيضا أنه السمت الحسن، كذا أخرجه محمد بن نصر في كتاب الصلاة، والمعنى أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن، (فإنه يشرق من الباطن على الظاهر) ، فيعرفون به (وهو الأصح، وقيل: هي الغرر التي تكون في وجوههم يوم القيامة من أثر الوضوء) يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا. رواه عطية العوفي عن ابن عباس، وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا، وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع سجودهم من وجوههم كالقمر ليلة البدر، وروى محمد بن نصر في كتاب الصلاة، والبخاري في التاريخ عن ابن عباس : هو النور يغشى وجوههم يوم القيامة. ويروى عن أنس مثله، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير، وقيل: معناه موضع السجود أسود ووجوههم بيض يوم القيامة. روي ذلك عن عطية العوفي، وأخرج الطبراني والبيهقي في السنن عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد، إذ جاء رجل، وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه، أما والله ما هي السيماء التي سمى الله، ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عيني. وفي هذا القول رد لما ذهب إليه العوفي، إلا أن يقال: أن العوفي قاله مقيدا بيوم القيامة، وأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر عن عكرمة أنه قال في تفسير السيما أنه السهر، وقال الضحاك: هو صفرة الوجه من السهر، إذا سهر الرجل بالليل أصبح مصفرا. هكذا رواه ابن المنذر، وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وهو قريب من القول الذي قبله، وقيل: هو التواضع، وقيل: العفاف في الدين، وقيل: الحياء، وكل ذلك داخل في حد الخشوع، والله أعلم .




الخدمات العلمية