الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروي عن الله سبحانه في الكتب السالفة أنه قال ليس كل مصل أتقبل صلاته ، إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على عبادي وأطعم الفقير الجائع لوجهي وقال صلى الله عليه وسلم : إنما فرضت الصلاة ، وأمر بالحج والطواف ، وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك وقال ؟ صلى الله عليه وسلم للذي أوصاه: وإذا : صليت فصل صلاة مودع أي : مودع لنفسه ، مودع لهواه ، مودع لعمره ، سائر إلى مولاه كما قال عز وجل : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه وقال تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله وقال تعالى : واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وقال صلى الله عليه وسلم : " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا والصلاة مناجاة فكيف تكون مع الغفلة وقال بكر بن عبد الله يا ابن آدم إذا شئت : أن تدخل على مولاك بغير إذن وتكلمه بلا ترجمان دخلت ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : تسبغ وضوءك وتدخل محرابك ، فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن فتكلمه بغير ، ترجمان .

التالي السابق


(وروي عن الله سبحانه في الكتب السالفة) أي: من الكتب التي نزلت على أنبيائه المتقدمين صلى الله عليهم (أنه قال) ، ونص "القوت": وقد يروى في خبر: يقول الله عز وجل. (ليس كل مصل) ، وفي "القوت": لكل مصل، (أتقبل صلاته، إنما أتقبل صلاة من تواضع لعظمتي) زاد صاحب "القوت": "وخشع قلبه لجلالي، وكف شهواته عن محارمي، وقطع ليله ونهاره بذكري، ولم يصر على معصيتي (ولم يتكبر على) ونص "القوت": "على خلقي" (وأطعم الفقير الجائع لوجهي) ، ونص "القوت" بعد قوله: "على خلقي: ورحم الضعيف وواسى الفقير من أجلي، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلم له نورا، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبر قسمه، وأكلؤه بقوتي وأباهي به ملائكتي، ولو قسم نوره عندي على أهل الأرض لوسعهم، فمثله كمثل الفردوس، لا يتسنى ثمرها، ولا يتغير حالها" .

قلت: وقد روي هذا مرفوعا من حديث علي أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، ولفظه: "يقول الله تعالى: إنما أتقبل الصلاة"، فساقه وفيه: "ولم يبت مصرا على خطيئة"، وفيه: "ويطعم الجائع ويؤوي الغريب ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، فذلك الذي يسألني فأعطيه، ويدعوني فأستجيب له، ويتضرع إلي فأرحمه، فمثله عندي". إلخ، وسيأتي للمصنف قريبا هذا السياق بعينه عن [ ص: 22 ] ابن عباس مع اختلاف يسير، ثم قال صاحب "القوت": فهذه أوصاف التوابين المستقيمين على التوبة، الذاكرين المنيبين إلى الله تعالى، المتواضعين المتباذلين في الله تعالى، وهم المتقون الزاهدون .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى) ، وفي "القوت"، وروى معنى الآية، أي: قوله تعالى: وأقم الصلاة لذكري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما فرضت"، ثم ساقه إلى آخره، وقال العراقي: أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عائشة بنحوه، دون ذكر الصلاة، قال الترمذي : حسن صحيح اهـ .

ثم قال صاحب "القوت": (فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود) الأعظم، (والمبتغى) أي: المطلوب الأهم، (عظمة ولا هيبة) ، ولا إجلال مقام، ولا حلاوة إفهام، (فما قيمة ذكرك؟) ، فإنما صلاتك حينئذ كعمل من أعمال دنياك، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قسما من أقسام الدنيا: إذا كان المصلي على مقام من الهدى، فقال: "حبب إلي من دنياكم"، ذكر منها الصلاة، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا، وهي آخرة لأبناء الآخرة، وهي صلة ومواصلة لأهل الله عز وجل البر الوصول، (و) قد (قال صلى الله عليه وسلم:) وقد رأى أنس بن مالك رضي الله عنه رجلا يتوضأ فقال: (إذا صليت فصل صلاة مودع) ، هكذا في "القوت" .

قال العراقي: أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أيوب، والحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في الزهد من حديث ابن عمر ، ومن حديث أنس بنحوه اهـ .

قال تلميذه الحافظ: وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أنس، ثم قال صاحب "القوت": (أي: مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعمره، سائر إلى مولاه) . والحديث يحتمل هذه المعاني، ثم قال صاحب "القوت": (كما قال عز وجل: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) . قال أبو إسحاق الزجاج : الكدح: السعي والحرص والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة، وكدح الإنسان: عمل لنفسه خيرا أو شرا، وبه فسرت الآية: (وقال تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله ) تقدم تفسير هذه الآية في كتاب العلم، (وقال تعالى: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) ، وقد أورد صاحب "القوت" الآية الأولى والأخيرة، ولم يذكر الآية الثانية، ثم قال (و) لذلك (قال صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر) أي: لم يفهم في أثناء صلاته أمورا، تلك الأمور تنهى عن الفحشاء والمنكر، (لم تزده) أي: صلاته .

وفي رواية: "لم يزدد" أي: بصلاته (من الله إلا بعدا) ؛لأن صلاته ليست هي المستحق بها الثواب، بل هي وبال يترتب عليها العقاب، قال الحراني: هذه الآفة غالبة على كثير من أبناء الدنيا، وقال المناوي : استدل به الغزالي على اشتراط الخشوع للصلاة، قال: لأن صلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء اهـ .

وأما تخريج الحديث فقال العراقي: رواه علي بن معبد في كتاب "الطاعة والمعصية" من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح، ووصله ابن مردويه في تفسيره بذكر عمران بن حصين رضي الله عنه، والمرسل أصح، ورواه الطبراني وابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عباس بإسناد لين، وللطبراني من قول ابن مسعود : "من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر". الحديث، وإسناده صحيح، اهـ .

قلت: وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم وابن المنذر من حديث ابن عباس، ولين إسناده لأجل ليث بن أبي سليم لتدليسه، إلا أنه ثقة، وقال الزيلعي : فيه يحيى بن طلحة اليربوعي، وثقه ابن حبان وضعفه النسائي، وقال في "الميزان": هو صويلح الحديث، وقال النسائي: ليس بشيء، وساق له هذا الخبر، ثم قال: أفحش ابن الجنيد، فقال: هذا كذب وزور، (والصلاة مناجاة) لأن العبد يناجي فيها ربه كما سيأتي من حديث أنس عند الشيخين: "إن أحدكم إذا كان في صلاته، فإنه يناجي ربه" الحديث، وجاء أيضا: "وقد رأى نخامة في قبلة: أيكم يحب أن يبزق في وجهه؟ فقلنا: لا، فقال: إن أحدكم إذا دخل في صلاته فإن ربه عز وجل بينه وبين القبلة"؛ (فكيف تكون مع الغفلة) ، فعلم بذلك أن الخشوع شرط في الصلاة عند المصنف تبعا لصاحب "القوت"، وقال صاحب "القوت" بعد أن أورد الحديث المتقدم ما نصه، وكما قال: "من لم يترك قول الزور والعمل به، فليس لله عز وجل حاجة في أن يترك طعامه وشرابه". فالمراد من الصلاة والصيام ترك المخالفة والآثام لأنهما [ ص: 23 ] رياضة للمريدين على المواصلة، ولذلك أمر بهما مولانا تعالى في قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة ، أي: على مجاهدة النفس، وعلى صلاح القلب، وعلى طريق الآخرة، وعلى ترك المعاصي والشهوات، فجعلهما شيئين يستعان بهما على أمر الدين اهـ .

قلت: والحديث الذي أورده صاحب "القوت": "من لم يترك". . إلخ: أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "من لم يدع" في الموضعين، والباقي سواء، وقال صاحب "القوت" أيضا في باب المحافظة على الصلاة ما نصه: وعلامة قبول الصلاة أن تنهاه في تضاعيفها عن الفحشاء والمنكر، والفحشاء: الكبائر، والمنكر: ما أنكره أهل العلم والمؤمنون، فمن انتهى رفعت صلاته إلى سدرة المنتهى، ومن تحرفته الأهواء فقد ردت صلاته ردا فهوى اهـ .

(وقال بكر بن عبد الله) ابن عمرو بن هلال المزني، أبو عبد الله البصري، أدرك نحوا من ثلاثين من فرسان مزينة منهم عبد الله بن مغفل، ومعقل بن يسار، قال ابن سعد: كان ثقة ثبتا مأمونا، حجة، فقيها، مات سنة ثمان ومائة، روى له الجماعة، (يا بن آدم: إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن دخلت، قيل: وكيف ذلك؟ قال: تسبغ وضوءك وتدخل محرابك، فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، فتكلم بغير ترجمان.) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة بكر بن عبد الله، قال: حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا إسحاق بن يحيى الرقي، حدثنا سيار عن إبراهيم اليشكري عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: "من مثلك يا بن آدم؟ خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت على ربك تعالى، ليس بينك وبينه حجاب، ولا ترجمان، إنما طبيب المؤمنين هذا الماء المالح".




الخدمات العلمية