الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هذا في عاص غير غافل في ذكره فكيف إذا اجتمعت الغفلة والعصيان وباختلاف المعاني التي ذكرناها في القلوب انقسم الناس إلى غافل يتمم صلاته ولم يحضر قلبه في لحظة منها ، وإلى من يتمم ولم يغب قلبه في لحظة بل ربما كان مستوعب الهم بها بحيث لا يحس بما يجري بين يديه .

ولذلك لم يحس مسلم بن يسار بسقوط الأسطوانة في المسجد اجتمع الناس عليها .

وبعضهم كان يحضر الجماعة مدة ولم يعرف قط من على يمينه ويساره .

ووجيب قلب إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان يسمع على ميلين .

وجماعة كانت تصفر وجوههم وترتعد فرائصهم .

وكل ذلك غير مستبعد فإن أضعافه مشاهد في همم أهل الدنيا ، وخوف ملوك الدنيا مع عجزهم وضعفهم وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم حتى يدخل الواحد على ملك أو وزير ويحدثه بمهمته ثم يخرج ، ولو سئل عمن حواليه أو عن ثوب الملك لكان لا يقدر على الإخبار عنه لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حواليه ولكل درجات مما عملوا فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه فإن موضع نظر الله سبحانه القلوب دون ظاهر الحركات .

ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء ومن وجود النعيم بها واللذة ولقد صدق فإنه يحشر كل على ما مات عليه ، ويموت على ما عاش عليه ويراعي في ذلك حال قلبه لا حال شخصه فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه .

التالي السابق


قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (هذا في عاص) لله تعالى (غير غافل) في حالة ذكره، (فكيف إذا اجتمعت الغفلة والعصيان) جميعا، فالمصيبة أشد والعقوبة آكد، (وباختلاف المعاني التي ذكرناها انقسم الناس إلى) قسمين: (غافل) القلب (يتمم صلاته) [ ص: 125 ] بأداء أركانها وسننها ورعاية آدابها، (ولم يحضر قلبه في لحظة منها، وإلى من يتمم) أركانها بالوجه المذكور، (ولم يغب قلبه في لحظة) منها، بل هو معمور بالحضور ومملوء بالنور، (بل ربما كان مستوعب الهم به) ، أي: بالقلب، (بحيث لا يحس) ، أي: لا يدرك (بما يجري بين يديه) ، أي: بحضرته قريبا منه، وهذا مقام الاستغراق، (ولذلك لم يحس مسلم بن يسار) الدمشقي -تقدمت ترجمته- (بسقوط أسطوانة في المسجد) الجامع بالبصرة، (اجتمع الناس عليها) ، فجاء الناس يهنئونه على سلامته، فلم يحس بذلك كله، (وبعضهم) وهو سعيد بن المسيب كما في القوت، (حضر الجماعة مدة) ، أي: أربعين سنة، كما في القوت، (ولم يعرف قط من على يمينه ويساره) ، وذلك من كمال خشوعه، وقد تقدم ذلك أيضا، (ووجيب قلب إبراهيم عليه السلام كان يسمع من ميل) ، وتقدم للمصنف من ميلين، (وجماعة كانت تصفر وجوههم وترتعد فرائصهم) عند القيام إلى الصلاة، منهم علي بن أبي طالب، ومنهم علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، وقد تقدم النقل عن كل منهما في أول هذا الكتاب، (وكل ذلك غير مستبعد) عقلا، (فإن أضعافه مشاهد) مرئي (في همم أهل الدنيا، وخوف ملوك الدنيا) من إحضار القلب، وحسن الإصغاء لما يرد إليه، وعدم الالتفات وكمال الهيبة والخشوع والإنصات وتغير اللون، والوجل (مع) كمال (عجزهم وضعفهم) وذلهم، (وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم) من الحطام الدنيوي، (حتى يدخل الواحد) منهم (على ملك أو وزير) ، أو ذي جاه (ويحدثه بهمه، ويخرج من عنده ولو سئل عمن حواليه) من الجلاس أو الوقوف، (أو عن ثوب الملك) الذي كان عليه، (لكان لا يقدر على الإخبار عنه) ، وفي نسخة: عن ذلك، (لاشتغال همه به عن ثوبه) الملبوس (وعن الحاضرين حوله) ، وفي نسخة: حواليه، ( ولكل درجات مما عملوا ) ، ولكل مجتهد نصيب، (فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه) وخشيته، (وخشوعه وتعظيمه) لله تعالى، وهيبته منه، (فإن موقع نظر الله القلوب دون ظاهر الحركات) ، ونظر الله إلى عباده إحسانه إليهم وإفاضة نعمه عليهم .

وقد روى مسلم وابن ماجه من حديث أبي هريرة رفعه: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". (ولذلك قال بعض الصحابة:) رضوان الله عليهم على ما نقله صاحب القوت في وصف صلاة الخاشعين ما نصه: (يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئاتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدو) ، أي: السكون فيها، (ووجود النعيم بها واللذة) اهـ .

وقال أيضا في باب أحزاب القرآن ما نصه: ويقال إن العبد يحشر من قبره على هيئته في صلاته من السكون والطمأنينة، ويكون راحته في الموقف على قدر راحته وتنعمه بالصلاة، قال: وروينا معنى هذا عن أبي هريرة.

قلت: فظهر من هذا السياق أن المراد ببعض الصحابة في أول سياقه ه وأبو هريرة، (ولقد صدق) قائله، (فإنه يحشر كل على ما مات عليه، ويموت على ما عاش عليه) ، وذلك لأن العبرة بما ختم له به، (ويراعي في ذلك حال قلبه) كيف كان، (لا حال حسه) ، وفي نسخة: شخصه، (فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة) ، ومنه ما ورد: "يحشرون على نياتهم"، وقيل: "كما تعيشون تموتون"، وكما تموتون تحشرون. ويؤيد ذلك ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وصححه أنه قال: "يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو، قال: يا عبد الله إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا على أي حال، قاتلت أو قتلت أو قتلت، بعثك الله على تلك الحال". (ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم) من الغش والكدر، نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه آمين .




الخدمات العلمية