الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ؟ فيقول : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال داود : عليه السلام في مناجاته إلهي من يسكن بيتك ، وممن تتقبل الصلاة ؟ فأوحى الله إليه : يا داود إنما يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي يطعم الجائع ويؤوي الغريب ويرحم المصاب فذلك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس إن دعاني لبيته وإن سألني أعطيته أجعل له في الجهل حلما ، وفي الغفلة ذكرا ، وفي الظلمة نورا وإنما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان لا تيبس أنهارها ولا تتغير ثمارها ويروى عن حاتم الأصم رضي الله عنه أنه سئل عن صلاته فقال : إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي ، والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي أظنها آخر صلاتي ، ثم أقوم بين الرجاء والخوف ، وأكبر تكبيرا بتحقيق ، وأقرأ قراءة بترتيل ، وأركع ركوعا بتواضع ، وأسجد سجودا بتخشع ، وأقعد على الورك الأيسر ، وأفرش ظهر قدمها ، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام ، وأتبعها الإخلاص ، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا .

التالي السابق


(ويروى عن) الإمام زين العابدين ومنار القانتين، العابد الوفي الجواد الخفي (علي بن الحسين) بن علي رضي الله عنه (أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك) أي: يعتريك، (عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم) . وفي "أنساب قريش" قال مصعب بن عبد الله الزبيري عن مالك : لقد أحرم علي، فلما أراد أن يقول: لبيك، قالها، فأغمي عليه حتى سقط عن ناقته، فهشم، ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمى بالمدينة زين العابدين لعبادته، وقال غيره: كان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: ما لك؟ فقال: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟ وفي "القوت": وقال علي بن الحسين رضي الله عنه: من اهتم بالصلوات الخمس في مواقيتها وإكمال طهورها لم يكن له في الدنيا عيش، وكان إذا توضأ للصلاة تغير لونه وأرعد، فقيل له في ذلك، فقال: أتدرون على من أدخل، وبين يدي من أقف، ولمن أخاطب، وماذا يرد علي؟

وأخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته من طريق محمد بن زكريا الغلابي عن العتبي عن أبيه، قال: كان علي بن الحسين إذا فرغ من وضوئه، وصار بينه وبين صلاته، أخذته رعدة ونفضة، فقيل له في ذلك، فقال: ويحكم، أتدرون إلى من أقوم، ومن أريد أن أناجي؟

(ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه) فيما رواه وهب بن منبه عنه من زبور داود عليه السلام (أنه قال: قال داود:) بن إيشا النبي (صلى الله عليه) وعلى نبينا (وسلم) وهو والد سيدنا سليمان عليه السلام، أنزل عليه الزبور مؤكدا لقواعد التوراة، والغالب فيه مواعظ ونصائح وحكم (إلهي من يسكن بيتك، وممن تتقبل الصلاة؟ فأوحى الله إليه: يا داود إنما يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي) ، وقد سبق النقل عن "القوت". وفيه: "وقد يروى في خبر: يقول الله عز وجل: ليس لكل مصل أتقبل صلاته، إنما أتقبل صلاة من تواضع لعظمتي"، وسبق ذلك للمصنف قريبا، زاد صاحب "القوت" فقال: وخشع قلبه لجلالي (وقطع) ليله و (نهاره بذكري وكف نفسه) أي: منعها (عن الشهوات) النفسية (من أجلي) ، وعبارة "القوت": وكف شهواته عن محارمي ولم يصر على معصيتي، (يطعم الجائع ويؤوي الغريب ويرحم المصاب) ، ونص "القوت": ورحم الضعيف وواسى الفقير من أجلي، (فذاك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس) ، ونص "القوت": ولو قسم نوره عندي على أهل الأرض لوسعهم، (إن دعاني لبيته) أي: أجبته (وإن سألني أعطيته) ، ونص "القوت": يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبر قسمه وأكلؤه بقوتي وأباهي به ملائكتي (أجعل له في الجهل حلما، وفي الغفلة ذكرا، وفي الظلمة نورا) ، ونص "القوت": أجعل الجهالة له حلما والظلم له نورا (وإنما مثله في الناس كالفردوس في الجنان) ، ونص "القوت": فمثله كمثل الفردوس (لا تيبس أنهارها) أي: لا تنشف (ولا تتغير ثمارها) ، ونص "القوت": لا يتسنى ثمرها، ولا يتغير حالها، والسياقان واحد، غير أن المصنف غير بينهما فقدم وأخر، فيظن الظنان أن هذا غير الذي تقدم وليس كذلك كما يظهر لمن تأمله (ويروى عن حاتم الأصم) تقدمت ترجمته في كتاب العلم (أنه سئل عن صلاته) ، ونص "العوارف" [ ص: 26 ] للسهروردي: "وقيل إن محمد بن يوسف الفرغاني رأى حاتما الأصم واقفا يعظ الناس، فقال له: يا حاتم، أراك تعظ الناس، أفتحسن أن تصلي؟ (فقال:) نعم (إذا جاءت الصلاة) أي: وقتها (أسبغت الوضوء) بإكمال سننه وآدابه، (وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه) وهو مسجد القوم مثلا (فأقعد فيه) قبل الدخول في الصلاة (حتى تجتمع جوارحي) الظاهرة، وحواسي الباطنة، (ثم أقوم إلى صلاتي) ، وقد قال السراج: من أدبهم قبل الصلاة المراقبة ومراعاة القلب من الخواطر والعوارض وذكر كل شيء غير الله تعالى، فإذا قاموا إلى الصلاة بحضور قلب كأنهم قاموا من الصلاة إلى الصلاة، فيبقون مع النفس والعقل اللذين بهما دخلوا في الصلاة، فإذا خرجوا من الصلاة رجعوا إلى حالهم من حضور القلب، فكأنهم أبدا في الصلاة .

قلت: وهذا بعينه ملحظ أشياخنا النقشبندية، فإنهم يأمرون المريد بذلك قبل دخوله في الصلاة والذكر، ثم قال حاتم (وأجعل الكعبة) كأنها مشهودة (بين حاجبي، والصراط تحت قدمي) كأني واقف عليها (والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت) الموكل بقبض الأرواح (ورائي) يطالبني بأخذ الروح، (وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا) .

ونص "العوارف" بعد قوله: "كيف تصلي؟" قال: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية، وأدخل بالهيبة، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم على السنة، وأسلمها إلى ربي، وأحفظها أيام حياتي، وأرجع باللوم على نفسي، وأخاف أن لا تقبل مني، وأرجو أن تقبل مني، وأنا بين الخوف والرجاء، وأشكر من علمني، وأعلم من سألني، وأحمد ربي إذ هداني". فقال محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يكون واعظا .

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثني علوان بن الحسين الربعي، حدثنا رباح بن أحمد الهروي قال: مر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم، تحسن تصلي؟ فقال: نعم، قال: كيف تصلي؟ فساقه مثل ما نقله صاحب "العوارف" إلا أنه قال: "وأدخل بالنية" بدل "بالهيبة"، وزاد بعد "الترتيل": "والتفكير"، وفيه: وأسلم بالنية وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل، وفيه: وأحفظه بالجهد إلى الموت، وفي آخره: تكلم فأنت تحسن تصلي .




الخدمات العلمية