الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما التكبير فينبغي أن يضم الهاء من قوله الله ضمة خفيفة من غير مبالغة ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو ، وذلك ينساق إليه بالمبالغة ، ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفا كأنه يقول أكبار ويجزم راء التكبير ولا يضمها فهذه هيئة التكبير وما معه .

التالي السابق


ثم شرع المصنف في بيان ما يندب في التكبير فقال: (وأما التكبير) ، أي: لفظه (فينبغي أن يضم الهاء من) لفظ (الله ضمة خفيفة من غير مبالغة) فيه، (ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو، وذلك ينساق إليه بالمبالغة، ولا يدخل بين باء) لفظ (أكبر ورائه ألفا) بالمبالغة فيه حتى (يقول أكبار) ، أي: فإنه اسم شيطان كما ذكره بعض، (ويجزم راء التكبير ولا يضمه) ، وعبارة "القوت": ولفظ التكبير أن يضم الهاء من الاسم بتخفيف الضمة من غير بلوغ واو، ويهمز الألف من "أكبر" ولا يدخل بين الباء والراء ألفا، [ ص: 40 ] ويجزم الراء، لا يجوز غير هذا، فيقول: الله أكبر اهـ .

وفي "العوارف": ويكبر ولا يدخل بين باء "أكبر" ورائه ألفا، ويجزم ال "أكبر" ويجعل المد في "الله"، ولا يبالغ في ضم الهاء من "الله"، انتهى .

وقال الرافعي : ومن مندوبات التكبير أن لا يقصره بحيث لا يفهم ولا يمططه، وهو أن يبالغ في مده، بل يأتي به بينا، والأولى فيه الحذف، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التكبير جزم والتسليم جزم"، أي: لا يمد، وفيه وجه أنه يستحب فيه، والأول هو ظاهر المذهب بخلاف التكبيرات للانتقالات، فإنه لو حذفها لخلا باقي انتقالاته عن الذكر إلى أن يصل إلى الركن الثاني، وههنا الأذكار مشروعة على الاتصال اهـ .

(فهذه هيئة التكبير وما معه) ، بقي أن قول المصنف: ويجزم راء التكبير ولا يضمه، ظاهره أن المراد به الجزم الذي هو من اصطلاح أهل العربية بدليل قوله: ولا يضمه، وقد ذكر الحافظان: العراقي وابن الملقن وتلميذهما الحافظ ابن حجر، ثم تلميذه الحافظ السخاوي أن هذا -أي: قولهم التكبير جزم- لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من قول إبراهيم النخعي، حكاه الترمذي في جامعه عنه عقب حديث "حذف السلام سنة"، فقال ما نصه: وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: التكبير جزم، والتسليم جزم، ومن جهته رواه سعيد بن منصور في سننه بزيادة: والقراءة جزم والأذان جزم. وفي لفظ عنه: كانوا يجزمون التكبير .

قال السخاوي: واختلف في لفظه ومعناه، قال الهروي في "الغريبين": عوام الناس يضمون الراء من "الله أكبر". وقال أبو العباس المبرد : الله أكبر الله أكبر، ويحتج بأن الأذان سمع موقوفا غير معرب في مقاطعه، وكذا قال ابن الأثير في "النهاية": معناه أن التكبير والسلام لا يمدان، ولا يعرب التكبير، بل يسكن آخره، وتبعه المحب الطبري، وهو مقتضى كلام الرافعي في الاستدلال به على أن التكبير جزم لا يمد، وعليه مشى الزركشي، وإن كان أصله الرفع بالخبرية، ويمكن الاستشهاد له بما أخرجه الطيالسي في مسنده من طريق ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يتم التكبير"، لكن قد خالفهم شيخي رحمه الله تعالى فقال: وفيما قالوه نظر؛ لأن استعمال لفظ الجزم في مقابل الإعراب اصطلاح حادث لأهل العربية، فكيف تحمل عليه الألفاظ النبوية؟ يعني على تقدير الثبوت، وجزم بأن المراد بجزم التكبير الإسراع به .

وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كره الهمز في القراءة، أراد أن تكون القراءة سليمة رسلة، وكذلك التكبير والتسليم لا يمد فيهما، ولا يتعمد الإعراب المبشع، ومما قيل فيه أيضا أن الجزم هو المتحتم، بمعنى عدم إجزاء غيره .

وأما لفظه ف "جزم" بالجيم والزاي، بل قيده بعضهم بالحاء المهملة والذال المعجمة، ومعناه: سريع، والحذم: السرعة، ومنه قول عمر: "إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحذم، أي: أسرع، حكاه ابن سيد الناس والشمس السروجي -المحدث، من أئمة الحنفية- في "شرح الهداية"، وسيأتي لهذا الكلام تتمة في "هيئة القعود" قريبا إن شاء الله تعالى، والله أعلم .



(فصل)

الكلام في التكبير للقادر والعاجز، قال الرافعي : أما القادر فيتعين عليه كلمة التكبير، فلا يجوز له العدول إلى ذكر آخر، وإن قرب منها كقوله: الرحمن أجل والرب أعظم، قال: لا يجزئه قوله: الرحمن الرحيم أكبر، ولا يجزئه ترجمة التكبير بلسان آخر، وخالفنا أبو حنيفة في الفصلين جميعا، فحكم بإجزاء الترجمة، وبإجزاء التسبيح وسائر الأذكار والأثنية، إلا أن يذكر اسما على سبيل النداء كقوله: يا ألله، وكقوله: اللهم اغفر لي، الله أكبر، وحكى ابن كج وجها لأصحابنا أنه تنعقد الصلاة بقوله: الرحمن أكبر، الرحيم أكبر كأنه اعتبر لفظ التكبير بإعلاء ذلك، ولم يعتبر اسما من أسماء الله تعالى بخصوصه، ولو قال: الله الأكبر أجزأه؛ لأن زيادة الألف واللام لا تبطل لفظ التكبير، ولا المعنى، بل فيه مبالغة وإشعار بالاختصاص .

والزيادة لا تغير النظم ولا المعنى كزيادة المد حيث يحتمله، وكقوله: الله أكبر من كل شيء، أو أكبر وأجل وأعظم، وقال مالك وأحمد : لا يجزئه قوله: الله الأكبر، وحكي قول عن القديم مثل مذهبهما، وممن حكاه القاضي أبو الطيب الطبري، وذكر أن أبا محمد الكرابيسي نقل عن الأستاذ [ ص: 41 ] أبي الوليد روايته "ولو قال: الله الجليل أكبر، ففي انعقاد الصلاة وجهان: أظهرهما الانعقاد، وكذا إذا أدخل بين كلمتي التكبير شيئا آخر من نعوت الله بشرط أن يكون قليلا، كقوله: الله عز وجل أكبر، وأما إذا أكثر بينهما فلا، ولو عكس وقال: الأكبر الله، فظاهر كلامه في "الأم" و"المختصر" أنه لا يجوز، وهذا الخلاف يجري أيضا في قوله: أكبر الله، وقيل: لا يجزئ بلا خلاف قال: ويجب على المصلي أن يحترز في لفظ التكبير عن زيادة تغير المعنى أن يقول: آلله أكبر استفهاما، أو يقول آكبار، فالآكبار جمع كبر محركة وهو الطبل، ولو زاد واوا بين الكلمتين إما ساكنة أو متحركة، فقد عطل المعنى، فلا يجزئه أيضا قال: والعاجز عن كلمة التكبير أو بعضها له حالتان: إحداهما، إن كان أخرس، أو نحوه يأتي بحسب ما يمكنه من تحريك اللسان وشفتيه بالتكبير، وإن كان ناطقا لكن لم يطاوعه لسانه فيأتي بترجمان بخلاف سائر الأذكار .

وأبو حنيفة يجوز سائر الأذكار في حال القدرة، وفي حال العجز أولى، وترجمة التكبير بالفارسية خداي بزركتر، ولو قال: خداي بزرك وترك التفضيل لم يجز، وجميع اللغات في الترجمة سواء، والحالة الثانية أن يمكنه كسب القدرة عليها بتعليم أو مراجعة فيلزمه ذلك. وقال النووي في "الروضة": ومن فروع هذا الفصل ما ذكره صاحب "التلخيص" والبغوي والأصحاب أنه لو كبر للإحرام أربع تكبيرات أو أكثر دخل في الصلاة بالأوتار، وبطلت بالأشفاع، وصورته أن ينوي بكل تكبيرة افتتاح الصلاة، ولم ينو الخروج من الصلاة بين كل تكبيرتين، فبالأولى دخل في الصلاة وبالثانية خرج، وبالثالثة دخل وبالرابعة خرج، وبالخامسة دخل وبالسادسة خرج، وهكذا أبدا؛ لأن من افتتح صلاة ثم نوى افتتاح صلاة بطلت صلاته، ولو نوى افتتاح الصلاة بين كل تكبيرتين فبالنية يخرج وبالتكبيرة يدخل، ولو لم ينو بالتكبيرة الثانية وما بعدها افتتاحا ولا خروجا صح دخوله بالأولى، وباقي التكبيرات ذكر لا تبطل به الصلاة، والله أعلم .



(فصل)

وقال أصحابنا: لا دخول في الصلاة إلا بتكبيرة الافتتاح، وهي قوله: الله أكبر، لا خلاف فيه أو الله الأكبر خلافا لمالك وأحمد، أو الله الكبير، أو الله كبير خلافا للشافعي، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير لا يجوز بغير هذه الأربعة من الألفاظ؛ لأن النص ورد بلفظ التكبير، قال الله تعالى: وربك فكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وفي العبادات البدنية إنما يعتبر المنصوص، ولا يشتغل بالتعليل، ولذا لم يقم الخد والذقن مقام الجبهة في السجود، والأذان لا يتأدى بغير لفظة التكبير، فتحريمة الصلاة أولى، وإنما جاز بالكبير؛ لأن أفعل وفعيلا في صفاته تعالى سواء، فلا يراد بأكبر إثبات الزيادة في صفته تعالى بعد المشاركة؛ لأنه لا يشاركه أحد في أصل الكبرياء، فكان أفعل بمعنى فعيل .

وقال أبو حنيفة ومحمد: إن قال بدلا عن التكبير "الله أجل أو أعظم أو الرحمن أكبر، أو لا إله إلا الله، أو تبارك الله أو غيره من أسماء الله تعالى، أجزأ ذلك عن التكبير، إذ حيثما ذكر من النصوص معناه التعظيم، فكان المطلوب بالنص التعظيم، ويؤيده قوله تعالى: وذكر اسم ربه فصلى ، وهو أعم من لفظ الله أكبر، وغيره، ولا إجمال فيه، فالثابت بالفعل المتوارث حينئذ يفيد الوجوب لا الفرضية، وبه نقول حتى يكره لمن يحسنه تركه، والمقصود من الأذان الإعلام، ولا يحصل بلفظ آخر؛ لأن الناس لا يعرفون أنه أذان، كذا في "الكافي"، ثم يشترط أن يكون الذكر كلاما تاما عند محمد، كالأمثلة المذكورة، وعند أبي حنيفة يكفي الاسم المفرد لإطلاق قوله تعالى: وذكر اسم ربه ، كذا في "الكفاية"، ولو افتتح الصلاة بقوله: اللهم، من غير زيادة، أو قال: يا ألله، يصح افتتاحه؛ لأن المقصود بندائه سبحانه التعظيم؛ لأنه تضرع محض من العبد غير مشوب بحاجته، وخالفه الكوفيون في اللهم؛ لأن معناه عندهم: يا ألله أمنا بخير، والصحيح مذهب البصريين أن معناه يا ألله لا غير، والميم المشددة عوض عن حرف النداء، فكان مثل يا ألله، ولو قال بدل التكبير: اللهم اغفر لي، أو اللهم ارزقني، أو قال: أستغفر الله أو أعوذ [ ص: 42 ] بالله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو ما شاء الله، لا يصح شروعه في الصلاة؛ لأن المقصود بهذه الأذكار محض التعظيم لما يشوبه من السؤال تصريحا أو تعريضا، وهو غير الذكر، وكذا لو قال بسم الله لا يصح شروعه، وكذا لو ذكر اسما يوصف به غيره تعالى إلا أن ينوي ذاته تعالى خاصة، وفي "الكفاية": الأظهر الأصح أن الشروع يحصل بكل اسم من أسمائه تعالى، كذا ذكره الكرخي، وأفتى به المرغيناني، ولو قال "الله" من غير زيادة شيء يصير شارعا عند أبي حنيفة فقط، في رواية الحسن عنه، وفي ظاهر الرواية لا يصير شارعا، ذكره في "الخلاصة" عن "التجريد"، وذكر فيه خلاف محمد.

وإن قال: الله أكبار بإدخال ألف بين الباء والراء لا يصير شارعا، وإن قال ذلك من خلال الصلاة تفسد صلاته، قيل لأنه اسم من أسماء الشيطان، وقيل: لأنه جمع كبر وهو الطبل، وقيل: يصير شارعا، والأصح لا، كذا في "المحيط"، ولو أدخل المد في ألف الجلالة كما يدخل في قوله تعالى: آلله أذن لكم ، وشبهه تفسد صلاته إن حصل في أثنائها عند أكثر المشايخ، ولا يصير شارعا به في ابتدائها أو يكفر لو تعمده؛ لأنه استفهام ومقتضاه الشك في كبريائه تعالى، وقال محمد بن مقاتل: إن كان لا يميز بين المد وعدمه لا تفسد صلاته، والاستفهام أن يكون للتقرير، لكن الأول أصح، وعلى هذا لو مد همزة "أكبر"، الأصح أنها تفسد أيضا، وإشباع حركة الهاء خطأ من حيث اللغة، ولا تفسد، وكذا تسكينها، وأما مد اللام فصواب، والله أعلم .




الخدمات العلمية