الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الصلب فأن يضع يديه على خاصرتيه في القيام ، ويجافي بين عضديه في القيام .

وأما المواصلة فهي خمسة اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام ، ولا ركوعه بقراءته واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه وواحدة بينهما أن لا يصل تسليمة الفرض بالتسليمة الثانية وليفصل بينهما .

وأما الحاقن فمن البول والحاقب من الغائط والحازق صاحب الخف الضيق .

فإن كل ذلك يمنع من الخشوع .

وفي معناه الجائع والمهتم .

وفهم نهي الجائع من قوله صلى الله عليه وسلم : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب .

التالي السابق


(وأما الصلب) المنهي عنه في الصلاة (فأن يضع يديه) جميعا (على خصريه، ويجافي بين عضديه) ، وقد ذكر معنى الخصر، وهذا هو نص "القوت" و"العوارف"، وهو أيضا من هيآت أهل النار، وقد نهي عنه، وعن الاختصار مطلقا، ولكن في الصلاة أشد، وقد يكون الصلب راجعا إلى أحد معاني الاختصار، فتأمل. ويوجد هنا في بعض نسخ الكتاب أن يضع يديه على خاصرته عند القيام، ويجافي بين عضديه، وفي بعضها تأخير لفظ "عند القيام" بعد قوله: وعضديه، والأول هو الموافق لما في "القوت" و"العوارف". (وأما المواصلة فهي خمسة) ، ونص "القوت": وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق: "ونهى عن المواصلة في الصلاة"، وهي خمس: (اثنان) ، ونص "القوت": اثنتان (على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام، ولا) يصل (ركوعه بقراءته) ، بل يسكت بين كل منهما سكتة لطيفة (واثنان على المأموم) ، وفي "القوت": واثنتان (أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام) ، ولا يصل (تسليمه بتسليمه وواحدة بينهما) ، وكان مقتضى سياقه أن يقول: وواحد، لتكون العبارة على نمط واحد، (أن لا يصل تسليمة الفرض بالتسليمة الثانية) ، ونص "القوت": بتسليم التطوع، (وليفصل بينهما) بسكتة لطيفة، وهكذا أورده صاحب "العوارف"، إلا أنه قال: بتسليم النفل بدل التطوع .

قال العراقي: وقد روى أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث سمرة: "سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة". وفي [ ص: 93 ] الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كان يسكت بين التكبيرة والقراءة إسكاتة". الحديث اهـ .

قلت: أشار بذلك إلى أن معنى الحديث المذكور صحيح، لكنه لم يرد بهذا اللفظ، والتفصيل: نعم ورد بلفظ: "نهى عن الوصال"، لكنه بمعنى آخر غير مناسب هنا، (وأما الحاقن) بالنون (فمن البول) ، وكذلك الحقن ككتف، يقال: حقن الماء في السقاء حقنا إذا جمعته فيه، وحقن الرجل بوله: حبسه فهو حاقن، وقال ابن فارس: ويقال لما جمع من لبن وشد حقين، ولذلك سمي حابس البول حاقنا، (والحاقب) بالباء، (فمن الغائط) يقال: حقب بول البعير -من باب تعب- إذا احتبسه، ورجل حاقب: أعجله خروج البول، وقيل: الحاقب الذي احتاج إلى الخلاء للبول، فلم يتبرز حتى حضر غائطه، وقيل: الحاقب الذي احتبس غائطه .

قلت: وهذا المعنى الأخير هو المراد هنا، وقد روى مسلم والحاكم وأبو داود من حديث عائشة : "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان"، يعني: البول والغائط، وعند ابن حبان من حديث أبي هريرة: "لا يصلي أحدكم وهو يدافعه الأخبثان".

وعند ابن ماجه من حديثه بلفظ: "وهو يجد شيئا من الخبث"، وعند الطبراني في "الكبير" من حديث المسور بن مخرمة: "لا يصلين أحدكم وهو يجد من الأذى شيئا، يعني: الغائط والبول .

(والحازق) بالزاي والقاف: (صاحب الخف الضيق) ، هكذا فسره أهل الغريب، ومنه قولهم: لا رأي لحازق، وفي "شرح المنهاج": الحازق هو مدافع الريح، ولم أره في كتب اللغة، فإن صح فهو مناسب لما قبله .

ونص "القوت": "وقد نهى عن صلاة الحاقن والحاقب والحازق". (فإن ذلك يمنع الخشوع) فلا يصلي من كن به هذه الثلاث؛ لئلا يشتغل القلب، (وفي معناه الجائع والمهتم) ، ونص "القوت": وأكره صلاة الغضبان، والمهتم بأمر، ومن عرضت له حاجة حتى يسرى عن قلوبهم ذلك، وتطمئن القلب، ويتفرغوا للصلاة، (وفهم نهي الجائع) عن الصلاة، ونص "القوت": ومن شغل قلبه حضور الطعام، وكانت نفسه تائقة إليه فليقدم الأكل، (لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا حضر العشاء) بفتح العين، أي: الطعام الذي يؤكل آخر النهار، (وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء) . قال العراقي: متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة اهـ .

قلت: وفي صحيح البخاري باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء، وقال أبو الدرداء: من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وهو فارغ .

حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن هشام، حدثني أبي، سمعت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء"، ثم قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قدم العشاء فابدءوا قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم"، ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه".

وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام، وقال زهير ووهب بن عثمان، عن موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم على الطعام، فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه، وإن أقيمت الصلاة؛ اهـ .

نص البخاري .

ثم قال صاحب "القوت": (إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب) ، أي: ففي هاتين الصورتين يجوز تقديم الصلاة على الطعام، والقصد فراغ القلب عن الشواغل ليقف بين يدي مالكه في مقام العبودية من المناجاة على أكمل الحالات من الخضوع والخشوع، واستثنى من الحديث أيضا الطعام الذي يؤتى عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، ولو ضاق الوقت بحيث لو أكل خرج يبدأ بها، ولا يؤخرها محافظة على حرمة الوقت، وتستحب إعادتها عند الجمهور، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وعند المالكية يبدأ بها إن لم يكن معلق النفس بالأكل، أو كان معلقا به، لكنه لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله بدأ بالطعام، واستحب له الإعادة، والمراد بالصلاة في الحديث المغرب، كما وقع التصريح به في الرواية [ ص: 94 ] الثانية، لكن ذكر المغرب لا يقتضي الحصر فيها، فحمله على العموم أولى نظرا إلى العلة، وهو التشويش المفضي إلى ترك الخشوع إلحاقا للجائع بالصائم، وللغذاء بالعشاء لا بالنظر إلى اللفظ الوارد .

وفي الحديث دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، فإنهما لما تزاحما قدم الشارع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: فابدءوا، على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، فأما من شرع فيه، ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة ولا يعارضه صنيع ابن عمر الذي أورده البخاري، وهو قوله: وكان ابن عمر يوضع له الطعام....إلخ،

فإن هذا اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما يدفع به شغل البال، نعم الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، ولا يتقيد بكل ولا بعض، والله أعلم .




الخدمات العلمية