وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلا فهي في نفسها مخالفة للشهوة شديدة على النفس وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الذي هو آلة للشيطان عدو الله فلا يبعد أن يحصل منها مقصود مع الغفلة ، وكذلك الحج أفعاله شاقة شديدة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام كان القلب حاضرا مع أفعاله ، أو لم يكن ، أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود فأما الذكر ؛ فإنه مجاورة ومناجاة مع الله عز وجل فأما أن يكون المقصود منه كونه خطابا ومحاورة ، أو المقصود منه الحروف والأصوات امتحانا للسان بالعمل كما تمتحن المعدة والفرج بالإمساك في الصوم وكما يمتحن البدن بمشاق الحج ويمتحن بمشقة إخراج الزكاة ، واقتطاع المال المعشوق .
ولا شك أن هذا القسم باطل : فإن تحريك اللسان بالهذيان ما أخفه على الغافل فليس فيه امتحان من حيث إنه عمل بل ، المقصود الحروف من حيث إنه نطق ولا يكون ، نطقا ؛ إلا إذا أعرب عما في الضمير ولا يكون معربا إلا بحضور القلب فأي سؤال في قوله : اهدنا الصراط المستقيم إذا كان القلب غافلا وإذا لم يقصد كونه تضرعا ودعاء ، فأي مشقة في تحريك اللسان به مع الغفلة لا سيما بعد الاعتياد هذا حكم الأذكار بل أقول لو حلف الإنسان وقال : لأشكرن فلانا وأثني عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه إذ لا يكون كلامه خطابا ونطقا معه ما لم يكن هو حاضرا في قلبه فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر بارا في يمينه .
ولا شك أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله عز وجل وقلبه بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب ولسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به هذا حكم القراءة والذكر . المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب
وبالجملة ، فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق ، وتمييزها عن الفعل .
. وأما الركوع والسجود ، فالمقصود بهما التعظيم قطعا ، ولو جاز أن يكون معظما لله عز وجل بفعله وهو غافل عنه لجاز أن يكون معظما لصنم موضوع بين يديه وهو غافل عنه ، أو يكون معظما للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه ، وإذا خرج عن كونه تعظيما لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به ثم يجعله عماد الدين والفاصل بين الكفر والإسلام ويقدم على الحج وسائر العبادات .