الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة وسيأتي أسباب ذلك في كتاب الخوف من ربع المنجيات وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة ، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل ويقوي ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل والعلم .

بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت ، وهذه المعارف إذا حصلت يقينا انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما ، طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه ففي معرفة السبب معرفة العلاج .

ورابطة جميع هذه الأسباب الإيمان .

واليقين أعني به هذه المعارف التي ذكرناها ومعنى كونها يقينا انتفاء الشك واستيلاؤها على القلب كما سبق في بيان اليقين من كتاب العلم ، وبقدر اليقين يخشع القلب ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه : فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه وقد روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدي فقم قيام العبد الذليل وناجني بقلب وجل ولسان صادق وروي أن الله تعالى أوحى إليه قل لعصاة أمتك لا يذكروني فإني آليت على نفسي أن من ذكرني ذكرته ، فإذا ذكروني ذكرتهم باللعنة .

التالي السابق


(وبالجملة كلما زاد العلم بالله) ، أي: بصفاته الحسنى وكيفية تصاريفها وتنفيذاتها، وبأفعاله تعالى ومعاملاته مع أحبابه وأعدائه، (زادت الخشية والهيبة) والرهبة، فمن ازداد علما ولم يزدد هيبة لم يزدد إلا بعدا. وقد روى الديلمي من حديث علي رفعه: "من ازداد علما ولم يزدد من الدنيا زهدا، لم يزدد من الله إلا بعدا". (وسيأتي أسباب ذلك في كتاب الخوف من ربع المنجيات) إن شاء الله تعالى، (وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل) ، أي: رأفته ورفقه، (وكرمه) ، وهو إفادة ما ينبغي لا لغرض، (وعميم إنعامه ولطائف صنعه) الذي أجاد فيه وأتقن، (ومعرفة صدقه [ ص: 124 ] فى وعده الجنة) ، أي: الفوز بها (بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده) الذي لا يخلف ولا يتخلف، (والمعرفة بلطفه) في سائر المنشآت، (انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة) ، وقد فهم من سياقه أن معرفة كل من صدق الوعد واللطف قرينتان، وأن الرجاء يتولد منهما جميعا من حيث التركيب، وهو ظاهر، فإنه قد يحصل للإنسان العلم بإحداهما، ولا يغلب عليه الرجاء، (وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة) ، والاستشعار استفعال من الشعور وهو العلم، (وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل) ، وفي نسخة: بتعظيم حق الله، (ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس) وعللها (وآفاتها) المهلكة، (وقلة إخلاصها وخبث دخلتها) بكسر الدال المهملة وسكون الخاء المعجمة، أي: جوانبها، (وميلها إلى الحظ العاجل) ، وهو الدنيوي (في جميع أفعالها) وأحوالها (مع العلم بعظم ما يقتضيه جلال الله عز وجل) وعظمته، (والعلم بأنه مطلع على السرائر) ، وفي نسخة: السر، (وخطرات القلوب) ، وفي نسخة: القلب، (وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت) على وجه الرسوخ والكمال أورثت في القلب (يقينا) و (انبعث منها) ، أي: من تلك المعارف، (بالضرورة حالة تسمى الحياء) ، وقد خص الإنسان به؛ لأن منشأها من تلك المعارف، وهي الحاملة له على الارتداع عما تنزع إليه الشهوة من القبائح، (فهذه أسباب هذه الصفات، وكلما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه) بأي وجه أمكن، (ففي معرفة السبب) على الوجه المذكور (معرفة العلاج) التام النافع، (ورابطة جميع هذه الأسباب الإيمان) أولا، (واليقين) ثانيا، (أعني به هذه المعارف التي ذكرناها) بالتفصيل، (ومعنى كونها) حصلت (يقينا انتفاء الشك) والتردد، (واستيلاؤها) أي: تلك المعارف (على القلب) بحيث تعم على جميعه، (كما سبق) ذلك مفصلا (في بيان اليقين من كتاب العلم، وبقدر اليقين) كمالا ونقصانا (يخشع القلب) ، وتطمئن الجوارح وتسكن الأعضاء؛ (ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان) النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا ونحدثه، أي: يكلمنا ونكلمه في أمورنا المتعلقة بالدنيا، (فإذا حضرت الصلاة) ، أي: حضر وقتها، وذلك إذا سمع النداء صار (كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه) ، أي: ترد عليه واردات إلهية تشغله عنا، وقد تقدم هذا الحديث آنفا، وذكر أنه روي بمعناه من حديث سويد بن غفلة مرسلا .

(وقد روي) في الإسرائيليات: (إن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام) فقال: (يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض) أي: ترتعش وتضطرب (أعضاؤك) هيبة لجلالي، (وكن عند ذكري خاشعا) بقلبك (مطمئنا) بجوارحك، (وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك) حتى لا يذكر إلا وقد عقل القلب معناه، فيكون اللسان مترجما عن القلب، وفيه إشارة إلى موافقة اللسان القلب في حال الذكر، (وإذا قمت بين يدي) في حال المناجاة، (فقم قيام العبد الذليل) بين يدي سيده الملك الجليل، (وناجني بقلب وجل) ، أي: مضطرب خائف، (ولسان صادق) مطابق لما في القلب. (وروي) أيضا: (إن الله تعالى أوحى إليه) أي: إلى موسى عليه السلام، فقال: يا موسى (قل لعصاة أمتك لا يذكروني) بألسنتهم، (فإني آليت على نفسي أن من ذكرني ذكرته، فإذا ذكروني ذكرتهم باللعنة) ، أي: البعد والطرد عن الرحمة. وأخرج الحاكم من حديث أبي هريرة: "من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ أكثر وأطيب". الحديث، وروى أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة: "إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه".




الخدمات العلمية