الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم أكد التواضع بالتكرار فعد إلى السجود ثانيا كذلك .

وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدبا وصرح بأن جميع ما تدلي به من الصلوات والطيبات ، أي : من الأخلاق الطاهرة لله .

وكذلك الملك لله ، وهو معنى التحيات .

التالي السابق


(ثم أكد التواضع بالتكرار فعد إلى السجود ثانيا كذلك) ، وقل فيه ما قلته في الأول، وقد تقدم حكمة تكرار السجود، (وأما التشهد فإذا جلست له) بعد رفع رأسك من السجدة الثانية سواء أمن الركعة الثانية أو الرابعة، (فاجلس متأدبا) ، فإنك جالس بين يدي ربك بأمره لك، (وصرح) بلسان حالك وقالك (بأن جميع ما تدلي به من الصلوات [ ص: 158 ] والطيبات، أي: من الأخلاق الطاهرة لله، وكذلك الملك لله، وهو معنى التحيات) ، أما التحيات، فجمع تحية، وهي السلام أو البقاء أو الملك أو العظمة، أي: أنواع ذلك كله له، والمصنف اقتصر على معنى واحد، وإنما جمع لأن الملوك كل واحد منهم كان يحييه أصحابه بتحية مخصوصة، فقيل: جميعها لله، وهو المستحق لها حقيقة .

وأما المباركات فهي التحيات التي تكون منها البركات .

وأما الصلوات فقيل: هي الخمسة، أي: واجبة لله لا يجوز أن يقصد بها غيره، وقيل: هي العبادات كلها أو الرحمات؛ لأنه المتفضل بها .

وأما الطيبات فقيل: هي الأقوال الصالحة، وقيل: ذكر الله تعالى، وقيل: هي التي تصلح أن يثنى بها على الله تعالى دون ما لا يليق به، وقيل التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية، والطيبات العبادات المالية .



"إشارة"

التشهد على الحقيقة معناه الاستحضار، فإنه تفعل من الشهود، وهو الحضور، والإنسان مأمور بالحضور في صلاته، فلا بد من التشهد وهو الأوجه .



(تنبيه) :

لما كان الشاهد مخاطبا بالعلم بما يشهد به لم يصح الحضور ولا الاستحضار من غير علم المتشهد بمن يريد شهوده فلا يحضر معه من الحق إلا قدر ما يعلمه منه، وما خوطب بأكثر من ذلك، واختلفت المقالات في الإله عز وجل، فلا بد للعاقل إذا انفرد في عمله بربه أن يكون على مقالة من هذه المقالات التي أنتجها النظر، فالسليم العقل من يترك ما أعطاه نظره في الله ونظر غيره من أصحاب المقالات بالنظر الفكري، ويرجع إلى ما قالته الأنبياء عليهم السلام، وما نطق به القرآن فيعتقده ويحضر معه في صلاته، وفي حركاته وسكناته، فهو أولى به من أن يحضر مع الله بفكره، وقد يطرأ لبعض الناس في هذا غلط، وذلك أنه يرى أن الإنسان ما يثبت عنده الشرع إلا حتى يثبت عنده بالعقل وجود الإله وتوحيده وإمكان بعثة الرسل وتشريع الشرائع، فيرجح بهذا أن يحضر مع الحق في صلاته بهذا العلم، وليس الأمر كذلك، فإنه وإن كان نظره هو الصحيح في إثبات وجود الحق وتوحيده وإمكان التشريع وتصديق الشارع بالدلالات التي أتى بها، فيعلم أن الشارع قد وصف لنا نفسه بأمور لو وقفنا مع العقل دونه ما قبلناها، ثم إنا رأينا أن تلك الأوصاف التي جاءت من الشارع في حق الله ومعرفته تطلبها أفعال العبادات، وهي أقرب مناسبة إليها من المعرفة التي تعطيها الأدلة النظرية التي تستقل بها، فرأينا أن نحضر مع الحق في صلاتنا وتشهدنا بالمعرفة الإلهية التي استفدناها من الشارع في القرآن والسنة المتواترة أولى من الحضور معه بمقالات العقول، والله أعلم .



(فصل)

قد تقدم اختلاف الروايات في التشهد المروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل طائفة ذهب إلى الحديث الذي ثبت عنده وعمل به، فالعارف إذا تشهد بهذا التشهد الذي ساقه المصنف، فإما أن يكون في حالة قبض وهيبة وجلال عن الاسم الإلهي، وإما أن يكون في حال أنس وجمال وبسط عن اسم إلهي، وإما أن يكون في حال مراقبة وحضور لموازنة ذاته بما كلفته من العبادات في الصلاة فيعمر كل قوة من قوى نفسه في صلاته، وكل جارحة من جوارح جسمه في صلاته بما يليق بها مما طلبه الحق منه من الهيئات أن يكون عليها في صلاته بالنظر إلى كل جارحة وقوة، فيعمرها سواء كان في حال هيبة أو أنس أو مراقبة، وهو أكمل الأحوال فانحصر الأمر في ثلاث مقامات؛ مقام جلال، ومقام جمال، ومقام كمال، فيتشهد بلسان الجلال فيقول: التحيات المباركات الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، أي: تحيات كل محي ومحيى بها في جميع العالم والنسب الإلهية، كلها لله، أي: من أجل الله الاسم الجامع الذي يجمع حقائقها، وذلك لأن كل تحية في العالم إنما هي مرتبطة بحقيقة إلهية كانت ما كانت، فمتى ما لم يجمع الإنسان بنيته وقلبه كما جمع بلفظه التحيات يفوته من الحقائق الإلهية كلها إلا الحقيقة الواحدة المشروعة له في تحيته من حيثما هو مقيد بها من جهة شرعه خاصة، والله أعلم .




الخدمات العلمية