الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالثة : إذا وثب فينبغي أن يقبل بوجهه على الناس .

التالي السابق


(الثالثة : إذا وثب) الإمام من موضعه (فينبغي أن يقبل بوجهه على الناس) إن شاء إذا لم يكن في مقابلة مصل . قال البخاري في باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم : عن سمرة بن جندب قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه . وعن زيد بن خالد الجهني : فلما انصرف أقبل على الناس . وعن أنس : فلما صلى أقبل علينا بوجهه . قال ابن المنير : استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة ، فإذا انقضت الصلاة زال السبب ، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء ، والترفع عن المأمومين . أهـ .

وقيل : الحكمة فيه تعريف الداخل بأن الصلاة انقضت ؛ إذ لو استمر الإمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلا ، وقال أصحابنا : وإن شاء الإمام انحرف عن يمينه وجعل القبلة عن يساره ، وهذا أولى ؛ لما في مسلم : كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه حتى يقبل علينا بوجهه، وإن شاء ذهب لحوائجه ؛ لقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ، والأمر للإباحة ، وكونه في الجمعة لا ينفي كونها في غيرها ؛ بل يثبته فيه بطريق الدلالة ، وقد تقدم أن الصلاة التي ليس بعدها تطوع يكره للإمام المكث في مكانه قاعدا مستقبل القبلة ، كما هو مذهب أبي حنيفة ، وعند الأكثرين لا بأس بالمكث حتى يأتي بالأذكار المأثورة ، ثم يتسنن ، وقد تقدم الجمع بين الأقوال ، والأحاديث .

وقال الحافظ في فتح الباري : واستنبط من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا ؛ لأن الصلاة إما أن تكون مما يتنفل بعدها ، أو لا ، فإن كان الأول فاختلف هل يتشاغل قبل التنفل بالذكر المأثور ، ثم يتنفل ، وبذلك أخذ الأكثرون أم لا ؟ وبذلك أخذ الحنفية ، وأما التي لا يتنفل بعدها كالعصر فيتشاغل الإمام ، ومن معه بالذكر المأثور ، ولا يتعين له مكان ؛ بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا ، وإن شاءوا مكثوا وذكروا ، وإن كان للإمام عادة أن يعلمهم ، أو يعظهم فيستحب أن يقبل عليهم جميعا ، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور ، فهل يقبل عليهم جميعا ، أو ينتقل ، فيجعل يمينه من قبل المأمومين ، ويساره من قبل القبلة ، ويدعو ؟ جزم بالثاني أكثر الشافعية ، ويحتمل أنه يستمر مستقبلا للقبلة من أجل أنها أليق بالدعاء ، ويحمل الأول ما لو طال الذكر ، والدعاء . أهـ .

قلت : نقل بعض أصحابنا عن الحواشي البدرية أنه نقل عن الإمام أبي حنيفة في المسألة تفصيلا آخر ، وهو أنه إذا كانت الجماعة عشرة حول وجهه إليهم يدعو ، وإلا ترجحت حرمة القبلة على الجماعة ، وأورد فيه حديثا من طريق الإمام ، وقد رده البرهان الحلبي في شرح المنية ، فقال : الانحراف ، والاستقبال لا تفصيل فيه بين عدد وعدد ، وما ذكره هذا الرجل عن الإمام من أن الجماعة إن كانوا عشرة يلتفت إليهم ، وإلا فلا ، وأن في الأولى ترجيح حرمتهم على القبلة ، وفي الثاني ترجيح القبلة عليهم ، فهذا لا أصل له في الفقه ، وهو رجل مجهول ، فلا يقلد فيما قاله ونقله عن الإمام فيما ليس له أصل ، والذي رواه في هذا الباب موضوع كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ بل حرمة المسلم الواحد أرجح من حرمة القبلة . أهـ .

قلت : وهو كما قال ؛ ليس كل ما ينقل عن الإمام مما ليس له أصل عند أصحابه يقلد فيه ، خصوصا إذا لم يعلم توثيق الناقل ، وأما إذا كان مجهولا ، فينظر إن كان مجهول الاسم فيقبل ، وإن كان مجهول الحال فلا ، وقد تمهل بعض مشايخنا المتأخرين في الرد على الشارح ، فلم يصب . والله أعلم .




الخدمات العلمية