الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى ; أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه أو تكون بنفسه أو كونه آدمي أو علمه أو لا هادي له ، ولا معلم ، أفيشك ذو بصيرة في أنه مسكين ضعيف عاجز ، بل الفيل العظيم شخصه الظاهرة قوته عاجز عن أمر نفسه ، فكيف هذا الحيوان الضعيف ؟! أفلا يشهد هو بشكله وصورته وحركته ، وهدايته ، وعجائب صنعته ، لفاطره الحكيم ، وخالقه القادر العليم ، فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله ، وكمال قدرته وحكمته ، ما تتحير فيه الألباب والعقول ، فضلا عن سائر الحيوانات .

التالي السابق


(وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى; أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه أو تكون بنفسه أو كونه آدمي أو علمه أو لا هادي له، ولا معلم، أفيشك ذو بصيرة في أنه مسكين ضعيف عاجز، بل الفيل العظيم شخصه الظاهرة قوته ) وبطشه (عاجز عن أمر نفسه، فكيف هذا الحيوان الضعيف؟! أفلا يشهد هو بشكله أو صورته وحركته، وهدايته، وعجائب صنعته، لفاطره الحكيم، وخالقه القادر العليم، فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله، وكمال قدرته وحكمته، ما تتحير فيه الألباب والعقول، فضلا عن سائر الحيوانات ) .

قال أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه- في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوان: "ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والأبصار مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق، كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وخلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر، انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفول برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفاء اليابس والحجر الجالس. ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها، وما في الجوف من شر أسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا. فتعالى الله الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في خلقها قادر. ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق كل شيء، وغامض اختلاف كل حي. وما الجليل، واللطيف، والثقيل، والخفيف، والقوي، والضعيف، في خلقه إلا سواء. وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل [ ص: 203 ] لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها، ولو أجلبوا بجمعهم حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة. فتبارك الذي يسجد له ما في السموات والأرض طوعا وكرها، ويعفر له خدا ووجها، ويلقي بالطاعة إليه سلما وضعفا، ويعطي القياد رهبة وخوفا، فالطير مسخرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبس، قدر أقواتها، وأحصى أجناسها، فهذا غراب، وهذا عقاب، وهذا حمام، وهذا نعام، دعا كل طير باسمه، وتكفل له برزقه، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها، وعدد قسمها فبل الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد جدوبها".

وقال علي- رضي الله عنه- في خطبته يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس: "ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به، ومسلمة له، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها من ذوات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخاريق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج، كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة، ومع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوقا، وجعله يدف دفيفا، ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقق صنعته، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به. ومن أعجبها خلق الطاوس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيسه، وسما به مطلا على رأسه، كأنه قلع دارئ عنجه نوتيه يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كإفضاء الديكة، ويئر بملاقحة أر الفحول المغتلمة. أحيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيل على ضعيف إسناده، ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في دفتي جفونه، وإن أنثاه تطعم ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنجبس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب تخال قصبه مداري من فضة، وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان، وفلذ الزبرجد، فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جنى من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشى الحلل أو مونق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله، وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حش كقوائم الديكة الخلاسية، وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية، وله في موضع العرف فنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية أو كحريرة ملتبسة مرآة ذات صقال، وكأنه متلفع بمعجر أسحم إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به. ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه; فهو كالأزاهير المبثوثة لم تر بها أمطار ربيع، ولا شموس قيظ. وقد ينحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعا، فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه، وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وقارة خضرة زبرجدية، وأحيانا صفرة عسجدية. فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين، وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام عن أن تدركه، والألسنة أن تصفه، فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق قد جلاه للعيون، فأدركته محدودا مكونا ومؤلفا ملونا، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته. فسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة، ووأى على [ ص: 204 ] نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده، والفناء غايته".

وقال رضي الله عنه في خطبة يذكر فيها بدائع خلقة الخفاش: "ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها وردعها، بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في أماكنها عن الذهاب في بلج ائتلافها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على ما فيها، وتبلغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها. فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار سكنا وقرارا، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش، ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاما لها جناحان لم يرقا فينشقا ولم يغلظا فيثقلا، تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها يقع إذا وقعت ويرتفع إذا ارتفعت لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلا من غيره".




الخدمات العلمية