الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال عبد الله بن عمر إن أدنى أهل الجنة منزلة ، من يسعى له ألف خادم ، كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء ، وأربعة آلاف بكر ، وثمانية آلاف ثيب ، يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الجنة سوقا ما فيها بيع ولا شراء ، إلا الصور من الرجال والنساء ، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها ، وإن فيها لمجتمع الحور العين ، يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها ، يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، فطوبى لمن كان لنا ، وكنا له وقال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحور في الجنة يتغنين : نحن الحور الحسان ، خبئنا لأزواج كرام .

وقال يحيى بن كثير في قوله تعالى : في روضة يحبرون قال السماع في الجنة وقال أبو أمامة الباهلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيانه ، بأحسن صوت سمعه الإنس والجن ، وليس بمزمار الشيطان ، ولكن بتحميد الله وتقديسه .

التالي السابق


(وقال عبد الله بن عمر) -رضي الله عنهما-: (إن أدنى أهل الجنة منزلة، من يسعى معه ألف خادم، كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه) . وهذا موقوف، وحكمه حكم المرفوع، وقد روي مرفوعا، بلفظ: إن أدنى أهل الجنة منزلة، لينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر أزواجه، وخدمه، وسرره، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين . رواه هكذا أحمد، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم، ورواه الترمذي، والطبراني، بلفظ: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه، وخدمه، وسرره، مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينطر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .

وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: أخس أهل الجنة منزلا له سبعون ألف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، لو نزل به أهل الأرض جميعهم، لأوصلهم لا يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك في قوله تعالى: وفيها ما تشتهيه الأنفس وروى أحمد، من حديث أبي هريرة : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن له سبع درجات، وهو على السادسة، وفوقه السابعة، وإن له لثلاثمائة خادم... الحديث .

(وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج) ، كذا في النسخ ،والرواية: ليزوج (خمسمائة حوراء، وأربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف ثيبا، يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا) . قال العراقي : رواه أبو الشيخ في كتاب طبقات المحدثين، وفي كتاب العظمة، من حديث ابن أبي أوفى، إلا أنه قال: مائة حوراء، ولم يذكر فيه عناقه لهن، وإسناده ضعيف، وتقدم قبله بحديث. اهـ .

قلت: سياق المصنف أورده البيهقي في كتاب البعث، وأما لفظ أبي الشيخ في كتاب العظمة: يزوج كل رجل من أهل الجنة بأربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف أيم، ومائة حوراء، فيجتمعن في كل سبعة أيام، فيقلن بأصوات حسان لم تسمع الخلائق بمثلها: نحن الخالدات فلا نبيد... الحديث، وفي آخره: طوبى لمن كان لنا، وكنا له. ورواه هكذا أبو نعيم في صفة الجنة، وهذا هو الذي أشار إليه العراقي أنه تقدم قبله بحديث، ورواه أبو الشيخ في العظمة أيضا عن عبد الرحمن بن سابط، قال: إن الرجل من أهل الجنة يتزوج خمسمائة حوراء، وأربعمائة بكر، وثمانية آلاف ثيب، ما منهن واحدة إلا يعانقها عمر الدنيا كلها، لا يأجم واحد منهما عن صاحبه... الحديث .

(وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن في الجنة سوقا) ، وفي لفظ: لسوقا، يذكر ويؤنث، والتأنيث أفصح، والمراد به هنا: مجتمع فيه أهل الجنة، وقد حفته الملائكة بما لا يخطر بقلب بشر، يأخذون ما يشتهون، وهذا نوع من الاستلذاذ، كما قال: (ما فيها بيع ولا شراء، إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها، وإن فيها لمجتمع) ، كذا في النسخ، والرواية: لمجتمعا (للحور العين، يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراغبات فلا نسخط، فطوبى لمن كان لنا، وكنا له) . قال العراقي : رواه الترمذي، فرقه في موضعين من حديث علي، وقد تقدم قبل هذا بحديثين، اهـ .

قلت: الحديث الأول إلى قوله: دخل فيها، رواه هناد، والترمذي، وقال: غريب، وعبد الله بن أحمد في [ ص: 547 ] زوائد الزهد، والحديث الثاني كذلك رواه المذكورون هكذا مفرقا، كل منهما على حدة، ولما رأى المصنف سندهما واحدا ذكرهما في سياق واحد، قال ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن عبد الرحمن بن إسحق، عن النعمان بن سعد، عن علي، فذكر الحديثين معا في متن واحد، وقد ضعفه المنذري ; لأن فيه عبد الرحمن بن إسحق، قال الذهبي : ضعفوه، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ودندن عليه الحافظ ابن حجر، ثم قال: وفي القلب منه شيء، وتبعه السيوطي، ومحصول كلامه: أن له شواهد .

قلت: من جملة شواهده: ما قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، عن أنس، رفعه: إن لأهل الجنة سوقا يأتوها كل جمعة، فيها كثبان المسك، فإذا خرجوا إليها هبت ريح، قال حماد: أحسبه قال: شمال، فتملأ وجوههم، وثيابهم، وبيوتهم مسكا، ويزدادون حسنا، وجمالا، قال: فيأتون أهليهم، فيقولون لهن: لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، ويقلن لهم: وأنتم قد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا . وأراد بالصورة في الحديث الأول الشكل، والهيئة، أي: تتغير أوصافه بأوصاف شبيهة بتلك الصورة، فالدخول مجاز عن ذلك، وأراد به التزين بالحلي، والحلل، وعليهما، فالمتغير الصفة لا الذات، ذكره الطيبي، ونوزع: بما لا يجدي، وذكر الشيخ الأكبر، -قدس سره- ما نصه: حدثني أوحد الدين الكرماني، قال: كنت أخدم شيخا وأنا شاب، فمرض بالبطن، وكان في محارة، فلما وصلنا تكريت، قلت: يا سيدي، اتركني أطلب لك دواء من صاحب المارستان، فلما رأى احتراقي، قال: رح إليه، فرحت له، فإذا هو قاعد في خيمته رجال قائمون بين يديه، ولا يعرفني فرآني واقفا بين الناس، فقام إلي، وأخذ بيدي، وأكرمني، وأعطاني الدواء، وخرج معي في خدمتي، فجئت الشيخ، وأعطيته الدواء، وذكرت له كرامة أمير المارستان، فقال: يا ولدي، إني أشفقت عليك; لما رأيت من احتراقك من أجلي، فأذنت لك، ثم خفت أن يخجلك الأمير بعدم إقباله عليك، فتجردت عن هيكلي، ودخلت في هيكل ذلك الأمير، وقعدت في محله، فلما جئت أكرمتك، وفعلت معك ما رأيت، ثم عدت إلى هيكلي هذا، ولا حاجة لي في هذا الدواء .

(وقال أنس ) -رضي الله عنه-: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الحور في الجنة يتغنين: نحن الحور الحسان، خبئنا ) ، وفي نسخة: خبئن، وفي أخرى: خلقن، وفي أخرى: خلقنا، (لأزواج كرام) . قال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسن بن داود المنكدري، قال البخاري : يتكلمون فيه، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به، اهـ .

قلت: ورواه أيضا من هذا الطريق سمويه في فوائده، والحسن بن داود بن محمد بن المنكدر، وأبو محمد المدني، روى عن عبد الرزاق، والمعتمر، روى له النسائي، وابن ماجه، وقد تكلم في سماعه عن المعتمر، مات سنة سبع وأربعين، وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا شبابة بن سوار، عن ابن أبي ذئب، عمن سمع أنسا، يقول: إن الحور العين في الجنة ليغنين يقلن: نحن الخيرات الحسان، خبئنا لأزواج كرام.

(وقال يحيى بن كثير) ، هكذا في سائر النسخ، والمسمى بهذا الاسم ثلاثة، يحيى بن كثير بن درهم الغبري مولاهم البصري أبو غسان، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة ست ومائتين، ويحيى بن كثير الكاهلي الكوفي، لين الحديث، روى له البخاري في جزء القراءة، وأبو داود يحيى بن كثير أبو النضر، صاحب البصري، ضعيف، روى له ابن ماجه، ثم رأيت في المصنف لأبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، (في قوله تعالى: في روضة يحبرون) قال: الحبر: (السماع في الجنة) ، ويحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، وأصل الحبرة: السرور والبهجة; لظهور أثره على صاحبه، وعزاه القشيري في الرسالة إلى مجاهد، ولفظه: السماع من الحور العين، بأصوات شهية: نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا .

وروى ابن أبي حاتم نحو ذلك، في تفسير قوله تعالى: في شغل فاكهون أي: ضرب الأوتار، وعزاه لابن عباس، وقال: هو خطأ في السمع، والصواب: افتضاض الأبكار .

(وقال أبو أمامة الباهلي) -رضي الله عنه-: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين، تغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتحميد الله) . وفي رواية: بتمجيد الله، (وتقديسه) . قال العراقي : رواه الطبراني بإسناد حسن، اهـ .

قلت: ورواه كذلك أبو نصر السجزي في الإبانة، وابن عساكر في التاريخ .

اعلم أن في الأحاديث الواردة ما يدل على أن سماع أهل الجنة يكون تارة من الحور، وتارة من أصوات الأنهار، وتارة من أصوات الأشجار، وتارة من إسرافيل، [ ص: 548 ] وتارة من داود -عليهما السلام-، وتارة من ملائكة آخرين .

وروى البيهقي في البعث، عن أبي هريرة، قال: إن في الجنة نهرا طول الجنة، حافتاه العذارى، قيام، متقابلات، يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق، حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها، قلنا: يا أبا هريرة، وما ذاك الغناء؟ قال: إن شاء الله، التسبيح، والتحميد، والتقديس، وثناء على الرب.

وروى ابن أبي شيبة، عن مروان بن معاوية، عن علي بن أبي الوليد، قال: سئل مجاهد، هل في الجنة سماع؟ قال: إن في الجنة لشجرا لها سماع لم يسمع السامعون إلى مثله.

وروى ابن أبي الدنيا، عن الأوزاعي، قال: بلغني أنه ليس في خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، فيأمره الله تبارك وتعالى، فيأخذ في السماع، فما يبقى ملك في السموات إلا قطع عليه صلاته، فيمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، فيقول الله -عز وجل-: وعزتي، لو علم العباد قدر عظمتي، ما عبدوا غيري.

وروي أيضا عن مالك بن دينار، قال: إذا كان يوم القيامة أمر بمنبر رفيع، فوضع في الجنة، ثم نودي: يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخم، الذي كنت تمجدني به في دار الدنيا، قال فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنان.

وروي أيضا عن شهر بن حوشب، قال: إن الله جل ثناؤه يقول لملائكته: إن عبادي كانوا يحبون الصوت الحسن في الدنيا، فيدعونه من أجلي، فأسمعوا عبادي، فيأخذون بأصوات من تهليل، وتسبيح، وتكبير، لم يسمعوا بمثلها قط، والله الموفق .




الخدمات العلمية