وقد اتفق المسلمون على أن غير مشروعة، فلا تجب ولا تستحب، ولم يقل قط أحد من علماء المسلمين أن الصلاة عند قبر أو مسجد أو مشهد على قبر سواء كان قبر نبي أو غير نبي، أن ذلك مستحب، أو أن الصلاة هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو قاله أو عمل به فقد فارق إجماع المسلمين وخرج عن سبيل المؤمنين. الصلاة عند القبور
وقد تنازع العلماء في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرمة أو مكروهة أو مباحة، ولم يقل أحد منهم: إنها مستحبة ولا واجبة.
والذي عليه جماهير العلماء أنها منهي عنها نهي تحريم أو نهي تنزيه، وكثير منهم يقول: إنها باطلة.
والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثة أقبر فصاعدا، فلم [ ص: 43 ] يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبر لا فرق بين أن يبنى على قبر أو أكثر، كالذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم إنما كانوا يبنون المسجد على قبر واحد، قبر نبي أو رجل صالح. وإن كان بعض من نهى عن الصلاة في المقبرة علله بالنجاسة، فإنه لا يعلل الصلاة في المسجد المبني على قبر بالنجاسة، بل قد نص هؤلاء وغيره- على أن العلة هنا خشية الافتتان بالقبر التي هي الشرك. -كالشافعي
وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضا إنما هي مشابهته للمشركين وأن ذلك قد يفضي إلى الشرك، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، وقال: إنه حينئذ يسجد لها الكفار . ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور، كما ثبت ذلك في صحيح وغيره عن مسلم أبي مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فنهى أن يكون في القبلة قبر. "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
وفي صحيح عن البخاري قال: كنت أصلي وهناك قبر، فقال أنس القبر القبر! فظننته يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر. أو كما قال. عمر بن الخطاب:
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن لم يقصد العبد السجود له، فكيف بمن يسجد للقبر؟ فإن هذا شرك. وقد روى [ ص: 44 ] عن الإمام أحمد معاذ بن جبل الشام وجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما هذا يا "، فقال: يا رسول الله! رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعظمائهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: "إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها". ثم قال: "يا معاذ؟ أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا إليه؟ "، قال: لا، قال: "فلا تسجد لي". معاذ! أنه لما قدم كان يعلم أن السجود للقبور لا يجوز. فمعاذ
قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين . وهذا في كتاب الله كثير جدا.
وقال تعالى: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون .
وقال تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله [ ص: 45 ] يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون
وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين الآيات إلى وهم مهتدون .
وفي الصحيحين عن قال: عبد الله بن مسعود
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ] . لما [نزلت
كان يظن أن السجود للحي مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدا، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله، كما بين في الأحاديث المتقدمة أن الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجدا من الذين نهانا رسولنا أن نتشبه بهم.
وكذلك منهي عنه باتفاق المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يستلمه بيده ولا يقبله بفمه، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرع أن يستلم الحجر الأسود [ ص: 46 ] الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يقبله أيضا، حتى إنه يستحب إذا لم يمكن تقبيله أن يقبل اليد التي استلمته، حتى إنه يستحب استلامه بالمحجن والعصا ونحو ذلك إذا لم يمكن استلامه باليد. وكذلك التمسح بالقبور - كاستلامها باليد وتقبيلها بالفم- الركن اليماني يستحب استلامه. ولم يستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان البيت الأربعة إلا الركنين اليمانيين، لأنهما بنيا على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان يليان الحجر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلمهما، ولهذا لا يستحب استلامهما عند الأئمة الأربعة وعامة العلماء، كما لا يستحب أن يستلم الرجل جوانب بيت الله، ولا يستحب تقبيل ذلك أيضا.