50 - ( فصل )
، فهل تكون يمينه كالبينة ، أم كإقرار المدعى عليه ؟ فيه قولان إذا ردت اليمين على المدعي . أظهرهما عند أصحابه : أنها كالإقرار . فعلى هذا : لو للشافعي ، فإن قيل : يمينه كالبينة سمعت للمدعى عليه . وإن قيل : هي كالإقرار لم تسمع ، لكونها مكذبة للبينة بالإقرار . أقام المدعى عليه بينة بالأداء والإبراء بعد ما حلف المدعي
[ ص: 108 ] وإذا قضي بالنكول فهل يكون كالإقرار أو كالبذل ؟ فيه وجهان ، ينبني عليهما ما إذا ادعى نكاح امرأة واستحلفناها فنكلت ، فهل يقضى عليها بالنكول وتجعل زوجته ؟ فإن قلنا : النكول إقرار حكم له بكونها زوجته وإن قلنا : بذل ، لم نحكم بذلك ، لأن الزوجية لا تستباح بالبذل . وكذلك لو ادعى رق مجهول النسب ، وقلنا : يستحلف ، فنكل عن اليمين . وكذلك لو ادعى قذفه واستحلفناه فنكل ، فهل يحد للقذف ؟ ينبني على ذلك . وكذلك الخلاف في مذهب ، فالنكول بذل عنده وإقرار عند صاحبيه . أبي حنيفة
قال صاحباه : فلا يستحلف في النكاح والرجعة والإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود ، لأن النكول عند بذل وهو لا يجري في هذه الأشياء ، وعندهما يستحلف ، لأنه يجري مجرى الإقرار ، وهو مقبول بها . أبي حنيفة
واحتج من جعله كالإقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهرا ، فيصير معترفا بالمدعى ، لأنه لما نكل مع إمكان تخلصه باليمين ، دل ذلك على أنه لو حلف لكان كاذبا ، وذلك دليل على اعترافه ، إلا أنه لما كان دون الإقرار الصريح لم يعمل عمله في الحدود والقيود . واحتج من جعله كالبذل ، بأنا لو اعتبرناه إقرارا منه يكون كاذبا في إنكاره ، والكذب حرام ، فيفسق بالنكول بعد الإنكار ، وهذا باطل ، فجعلناه بذلا وإباحة صيانة له عما يقدح في عدالته ، ويجعله كاذبا .
والصحيح : أن النكول يقوم مقام الشاهد والبينة ، لا مقام الإقرار ولا البذل . لأن الناكل قد صرح بالإنكار ، وأنه لا يستحق المدعي به . وهو مصر على ذلك ، متورع عن اليمين . فكيف يقال : إنه مقر ، مع إصراره على الإنكار ، ويجعل مكذبا لنفسه ؟ وأيضا ، لو كان مقرا لم تسمع منه بينة نكوله بالإبراء والأداء ، فإنه يكون مكذبا لنفسه . وأيضا ، فإن الإقرار إخبار وشهادة المرء على نفسه . فكيف يجعل مقرا شاهدا على نفسه بنكوله ، والبذل إباحة وتبرع ، وهو لم يقصد ذلك ، ولم يخطر على قلبه . وقد يكون المدعى عليه مريضا مرض الموت ، فلو كان النكول بذلا وإباحة اعتبر خروج المدعى من الثلث . فتبين أن لا إقرار ولا إباحة . وإنما هو جار مجرى الشاهد والبينة ، فإن " البينة " اسم لما تبين الحق ، ونكوله - مع تمكنه من اليمين الصادقة التي يبرأ بها من المدعى عليه ويتخلص بها من خصمه - دليل ظاهر على صحة دعوى خصمه وبيان أنها حق ، فقام مقام شاهد القرائن .
فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم أجرى السكوت مجرى الإقرار والبذل في حق البكر إذا استؤذنت ؟ [ ص: 109 ] قيل : ليس ذلك نكولا ، وإنما هو دليل على الرضا بما استؤذنت فيه ، لأنها تستحي من الكلام ويلحقها العار لكلامها الدال على طلبها ، فنزل سكوتها منزلة رضاها للضرورة . وهاهنا المدعى عليه لا يستحي من الكلام ولا عار عليه فيه فلا يشبه البكر ، والله أعلم .