قال القاضي - رحمه الله تعالى- : الصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته والتشكك في شيء من ذلك ، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة كما نبهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول .
قلت : وقد أوردت في باب [ . . . . ] ما فيه كفاية .
ولم ينقل عن أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك ، ومستند هذا الباب النقل ، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله .
قال القاضي : وأنا أقول : قد رمت قريش نبينا- صلى الله عليه وسلم- بكل ما افترته وعير [ ص: 455 ]
كفار الأمم وأنبيائها بكل ما أمكنها ، واختلقته مما نص الله تعالى عليه أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهته وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه .
ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، وبتلونه في معبوده محتجبين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه ، كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها [البقرة 142] كما حكاه الله تعالى عنهم ، وقد استدل القاضي القشيري على تنزيههم عن هذا بقوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب 7] وبقوله وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله : لتؤمنن به ولتنصرنه [آل عمران 81] قال : فطهره الله تعالى في الميثاق وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ، ثم أخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ، ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب هذا ما لا يجوزه إلا ملحد .
هذا معنى كلامه .
وكيف يكون ذلك وقد جبرائيل - عليه السلام- وشق قلبه صغيرا واستخرج منه علقة ، وقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله وملأه حكمة وإيمانا [كما تظاهر أخبار المبدإ] وكيف يكون نبيا أتاه وآدم بين الروح والجسد ، ثم يجوز عليه شيء من النقائص التي نزه الله تعالى عنها أنبياءه ، وهذا ما لا يقوله إلا جاهل أو معاند .
فصل
قال القاضي : واختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها قوم آخرون .
والصحيح إن شاء الله تعالى تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع ، ثم ذكر اختلاف الناس في وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في أبواب عبادته- صلى الله عليه وسلم- . حال النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه هل كان متبعا لشرع قبله أم لا ؟
ثم قال : هذا حكم ما يكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد ، وهو ما يسمى معصية ، ويدخل تحت التكليف ، ثم ذكر الكلام على عصمتهم من السهو والنسيان . [ ص: 456 ]
تنبيهات
الأول : قال ابن سيده عصمه يعصمه عصما وقاه ، وفي التنزيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم [هود 43] أي : لا معصوم إلا المرحوم انتهى .
هنا : منع الأنبياء من المعاصي . والمراد بالعصمة
الثاني : قال القاضي : ولا يشبه عليك بقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- في الكوكب والقمر والشمس هذا ربي فإنه قد قيل : هذا في سن الطفولية وابتداء النظر والاستدلال [وقبل لزوم التكليف] .
قلت : قال : هذا القول خرافة موضوعة ظاهرة الافتعال ، ومن المحال الممتنع ، وقد أكذب الله تعالى هذا بقوله الصادق أبو محمد بن حزم ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [الأنبياء 51] فكيف يدخل في عقله أن الكوكب والشمس والقمر ربه من أجل أنها أكبر قرصا من القمر ، هذا ما لا يظنه إلا سخيف العقل [ . . . . ] .
الثالث : قال القاضي : فإن قلت ما معنى قوله لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [الأنعام 77] قيل : إنه إن لم يؤيدني الله بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم وعبادتكم على معنى الإشفاق والحذر وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال .
الرابع : قال القاضي : فإن قلت : ما معنى قوله تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا [إبراهيم 13] ثم قال تعالى بعد ذلك عن الرسل قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [الأعراف 89] فلا يشكل عليك لفظة العود وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ، فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس ابتداء بمعنى الصيرورة ، كما جاء في حديث الجهنميين عادوا حمما ولم يكونوا قبل كذلك .
ومثله قول الشاعر :
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وما كان قبل ذلك .وقال أبو حيان : [ . . . . ] .
الخامس : الحديث الذي يرويه ، عن عثمان بن أبي شيبة رضي الله عنه جابر أن [ ص: 457 ] النبي- صلى الله عليه وسلم- قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه ، أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه فقال الآخر : كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد .
[فهذا حديث] أنكره جدا ، وقال : هو موضوع أو شبيه بالموضوع . الإمام أحمد
وأما عصمتهم بعد النبوة ، فقد قال القاضي : اعلم أن لا يخلو أن تطرأ على جسمه أو حواسه بغير قصد واختيار ، كالأمراض والأسقام ، أو بقصد واختيار ، وكله في الحقيقة عمل وفعل ، ولكن جرى رسم المشايخ بتفصيله إلى ثلاثة أنواع : [عمل بالجوارح ، وعقد بالقلب ، وقول باللسان] . الطوارئ من التغيرات والآفات على آحاد البشر
الأول : عمل بالجوارح وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها .
والنبي- صلى الله عليه وسلم- وإن كان من البشر ، ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر . فقد قال : قامت البراهين القاطعة ، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم وتنزيهه عن كثير من الآفات التي تقع على الاختيار وعلى غير الاختيار ، كما سنبينه- إن شاء الله تعالى- فيما يأتي من التفاصيل .
والكلام على ذلك يتضمن ثلاثة فصول :
الفصل الأول في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم-[من وقت نبوته] قال القاضي : اعلم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم بالله وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحى إليه ، فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم واليقين والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك ، أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك اليقين .
هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السلام قال بلى ولكن ليطمئن قلبي .
قال القاضي : وذهب معظم الحذاق من العلماء المفسرين إلى أنه إنما قال ذلك تبكيتا لقومه ، ومستدلا عليهم .
قيل : معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار ، والمراد : فهذا ربي .
قال الزجاج : قوله هذا ربي [الأنعام 76] على قولكم : كما قال تعالى أين شركائي [النحل 27] أي : عندكم ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك ولا أشرك قط بالله [ ص: 458 ]
طرفة عين ، قول الله تعالى عنه إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون [الصافات 85] ثم قال :
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء 75 ، 76 ، 77] وقال تعالى جاء ربه بقلب سليم [الصافات 84] أي : من الشرك وقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم 35] .
قال : الصحيح من ذلك أنه- عليه الصلاة والسلام- إنما قال ذلك توبيخا لقومه كما قال ذلك لهم في الكبير من الأصنام ولا فرق أنهم كانوا على دين الصابئين] يعبدون الكواكب ويصورون الأوثان على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرابين ، ويقولون : إنها تقبل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل- صلى الله عليه وسلم- على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس ، لكبر جرمها كما قال تعالى : أبو محمد بن حزم فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [المطففين 34] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام الجمادية ، وبين لهم أنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل أشرك قط أو شك أن الفلك بما فيه غير مخلوق ، ويؤيد قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء ركونا ولا عنفه على ذلك ، بل وافق مراد الله تعالى بما قال من ذلك وبما فعل ، قاله الطوفي . [ ص: 459 ]