( آمنوا بما أنزل الله ) ، الجمهور : إنه القرآن ، وقال : مطلق ، فبما أنزل الله من كل كتاب . الزمخشري
( قالوا نؤمن بما أنزل علينا ) : يريدون التوراة ، وما جاءهم من الرسالات على لسان موسى ، ومن بعده من أنبيائهم ، وحذف الفاعل هنا للعلم به ؛ لأنه معلوم أنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله أو لجريانه في قوله : ( آمنوا بما أنزل الله ) ، فحذف إيجازا إذ قد تقدم ذكره ، وذموا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله ، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد ، والمأمور به عام ، فلم يطابق إيمانهم الأمر .
( ويكفرون ) : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم ، أو جملة حالية ، العامل فيها قالوا . أي وهم يكفرون .
( بما وراءه ) ، أي بما سواه ، وبه فسر ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، و ( فمن ابتغى وراء ذلك ) ، أي بما بعده ، قاله قتادة ، أي ويكفرون بما بعد التوراة ، وهو القرآن ، أو بما وراءه ، أي بباطن معانيها التي وراء ألفاظها ، ويكون إيمانهم بظاهر لفظها .
( وهو الحق ) ، هو : عائد على القرآن ، أو على القرآن والإنجيل ؛ لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا .
( مصدقا ) : حال مؤكد ، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل .
( لما معهم ) : هو التوراة ، أو التوراة والإنجيل ، لأنهما أنزلا على بني إسرائيل ، وكلاهما غير مخالف للقرآن ، وفيه رد عليهم ؛ لأن من لم يصدق ما وافق التوراة ، لم يصدق بها . وإذا دل الدليل على كون ذلك منزلا من عند الله ، وجب الإيمان به ، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض .
( قل ) : أي قل يا محمد ، وقل يا من يريد جدالهم .
( فلم ) الفاء : جواب شرط مقدر ، التقدير : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم .
( تقتلون أنبياء الله ) ؟ لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان ، فقولكم : إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت ، لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه . وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر . ويقف البزي بالهاء فيقول : فلمه ، وغيره يقف : فلم بغير هاء ، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار ، أو لانقطاع النفس . وجاء يقتلون بصورة المضارع ، والمراد الماضي ، إذ المعنى : قل فلم قتلتم ، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منهم قتل الأنبياء ، وأنه قيد بقوله ( من قبل ) ، فدل على تقدم القتل .
قال ابن عطية : وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر . ألا ترى أن حاضري محمد - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا راضين بفعل أسلافهم ، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، وفي إضافة " أنبياء " إلى الله تشريف عظيم لهم ، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجل تعظيم ، وأن ينصر ، لا أن يقتل .
( إن كنتم مؤمنين ) قيل : إن نافية أي ما كنتم مؤمنين ؛ لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنا ، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء ، أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته . قيل : والأظهر أن إن شرطية ، والجواب محذوف ، التقدير : فلم فعلتم ذلك ؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد ، لكن حذف الشرط من الأول وأبقي جوابه وهو : فلم تقتلون ؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقي شرطه . وقال ابن عطية : وإن كنتم : شرط ، والجواب متقدم . ولا يتمشى قوله [ ص: 308 ] هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط ، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري منهم . ومعنى مؤمنين : أي بما أنزل إليكم ، أو متحققين بالإيمان صادقين فيه ، أو مؤمنين بزعمكم . وأجرى هذا القول مجرى التهكم بهم والاستهزاء ، كما تقول لمن بدا منه ما لا يناسبه : فعلت كذا وأنت عاقل ، أي بزعمك . والمبرد
( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) : أي بالآيات البينات ، وهي الواضحة المعجزة الدالة على صدقه . وقيل : التسع ، وهي : العصا ، والسنون ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر . وهي المعني بقوله : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) .
( ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) : تقدم تفسير هذه الجمل ، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم ، وهم كاذبون في ذلك . ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة ؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة ، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي ، فكرر عبادة العجل تنبيها على عظيم جرمهم . ولأن ذكر ذلك قبل ، أعقبه تعداد النعم بقوله : ( ثم عفونا عنكم ) ، و ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) . وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ . ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة ، وعدم رضاهم بأحكامها اختيارا ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطرارا ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة . ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره . والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته . وفي هذا التكرار أيضا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف .
( واسمعوا ) أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله : سمع الله لمن حمده ، أو اسمعوا متدبرين لما سمعتم ، أو اسمعوا وأطيعوا . لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل . والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب . قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا . وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملا . ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية .
( قالوا ) : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم .
( سمعنا وعصينا ) : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان . ويؤيده قول : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : ( ابن عباس سمعنا وأطعنا ) ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : ( سمعنا وعصينا ) . وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئا مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك . وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق . وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك . فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت : طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه . والقول الأول أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه . الزمخشري
( وأشربوا ) : عطف على قالوا سمعنا وعصينا . فيكون معطوفا على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالا ، والقول الأول هو الظاهر .
( في قلوبهم ) : ذكر مكان الإشراب ، كقوله : ( إنما يأكلون في بطونهم ) .
( العجل ) : هو على حذف مضافين ، أي حب عبادة العجل من قولك : أشربت زيدا ماء ، والإشراب مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، قالوا : وأشربت البياض حمرة ، أي خلطتها بالحمرة ، [ ص: 309 ] ومعناه أنه داخلهم حب عبادته ، كما داخل الصبغ الثوب ، وأنشدوا :
إذا ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافا
وقال : يقال أشرب قلبه حب كذا ، أي حل محل الشراب ومازجه . انتهى كلامه . وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل ؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، ولهذا قال بعضهم : ابن عرفة
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
وأما الطعام فقالوا : وهو مجاور لها ، غير متغلغل فيها ، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير ، وقال :
تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير
وحسن حذف ذينك المضافين ، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه ، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف . وقيل : معنى أشربوا : أي شد في قلوبهم حب العجل لشغفهم به ، من أشربت البعير : إذا شددت حبلا في عنقه . وقيل : هو من الشرب حقيقة ، وذلك أنه نقل أن موسى - عليه السلام - برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم : اشربوا ، فشرب جميعهم . فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يرده في قوله : ( في قلوبهم ) . وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن . وبناؤه للمفعول في قوله : وأشربوا ، دليل على أن ذلك فعل بهم ، ولا يفعله إلا الله تعالى . وقالت المعتزلة : جاء مبنيا للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته ، كما يقال : معجب برأيه ، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الإنس والجن دعوهم إليه ، ولما كان الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، نسب ذلك إلى المحبة ، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .
( بكفرهم ) : الظاهر أن الباء للسبب ، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق ، قيل : ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع ، يعنون أن يكون للحال ، أي مصحوبا بكفرهم ، فيكون ذلك كفرا على كفر .
( قل ) يا محمد ، أو قل يا من يجادلهم .
( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) : تقدم الكلام في بئس ، وفي المذاهب في ما ، فأغنى عن إعادته . وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : بهو إيمانكم ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وهي لغة ، والضم في الأصل ، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء ، وعنى بإيمانهم الذي زعموا في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) ، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم ، كما قال أصحاب شعيب : أصلاتك تأمرك أن نترك ؟ وقيل : ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم ، وهو إبليس . وقيل : ثم صفة محذوفة ، التقدير : إيمانكم الباطل ، وأضاف الإيمان إليهم لكونه إيمانا غير صحيح ، ولذلك لم يقل الإيمان ، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله : والمخصوص بالذم محذوف بعد ما ، فإن كانت منصوبة ، فالتقدير : بئس شيئا يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل ، فيكون يأمركم صفة للتمييز ، أو يكون التقدير : بئس شيئا شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذم المحذوف ، أو يكون التقدير : بئس شيئا ما يأمركم ، أي الذي يأمركم ، فيكون يأمركم به إيمانكم . والمخصوص مقدر بعد ذلك ، أي قتل الأنبياء ، وكذا وكذا . فيكون ما موصولة ، أو يكون التقدير : بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون ما تامة . وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعا من الإعراب .
( إن كنتم مؤمنين ) ، قيل : إن نافية ، وقيل : شرطية . قال : تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم . انتهى كلامه . وقال الزمخشري ابن عطية : وقد يأتي الشرط ، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله عن عيسى - عليه السلام : ( إن كنت قلته فقد علمته ) ، وقد علم عيسى - عليه السلام - أنه لم يقله ، وكذلك ( إن كنتم مؤمنين ) ، والقائل [ ص: 310 ] يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه أقام حجة لقياس بين . انتهى كلامه ، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين ، فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا الحق . وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى .
( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) : نزلت فيما حكاه عندما قالت اليهود : إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه . وقال ابن الجوزي أبو العالية والربيع : سبب نزول هاتين الآيتين قولهم : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ) ، و ( نحن أبناء الله ) ، و ( لن تمسنا النار ) ، الآيات ، وروي مثله عن قتادة . والضمير في قل ، إما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره . وفسروا الدار الآخرة بالجنة ، قالوا : وذلك معهود في إطلاقها على الجنة . قال تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة ، ( وللدار الآخرة خير للذين يتقون ) . والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى ، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها ؛ لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا . وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا ، أو هي آخر ما يسكن . وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : ( وهم بالآخرة هم يوقنون ) . ومعنى : عند الله ، أي في حكم الله ، كقوله تعالى : ( فأولئك عند الله ) أي في حكمه ( هم الفاسقون ) . وقيل : المراد بالعندية هنا : المكانة والمرتبة والشرف ، لا المكان . ومعنى " خالصة " : أي مختصة بكم ، لا حظ في نعيمها لغيركم . واختلفوا في إعراب " خالصة " ، فقيل : نصب على الحال ، ولم يحك غيره ، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت ، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور ، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر ؛ لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده . وقد وهم في ذلك الزمخشري المهدوي وابن عطية ، إذ قالا : ويجوز أن يكون نصب " خالصة " على الحال ، وعند الله خبر كان . وقيل : انتصاب " خالصة " على أنه خبر كان ، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت ؛ لأن كان يتعلق بها حرف الجر ، ويجوز أن يتعلق بـ " خالصة " . ويجوز أن تكون للتبيين ، فيتعلق بمحذوف تقديره : لكم ، أعني نحو قولهم : سقيا لك إذ تقديره : لك أدعو .
( من دون الناس ) : متعلق بخالصة ، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص وقطع الشركة . تقول : هذا ولي دونك ، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب . وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار . والمراد بالناس : الجنس ، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله : خالصة . وقيل : المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون . وقيل : المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله : قالوا ، ويطلق الناس ، ويراد به الرجل الواحد ، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة . ابن عباس
( فتمنوا الموت ) : أي سلوه باللسان فقط ، وإن لم يكن بالقلب ، قاله . أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم ، قاله قوم . أو فسلوه بقلوبكم على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم . وروي عن ابن عباس وغيره ، وقرأ الجمهور : فتمنوا الموت ، بضم الواو ، وهي اللغة المشهورة في مثل : اخشوا القوم . ويجوز الكسر تشبيها لهذه الواو بواو : ولو استطعنا ، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا ، فضموا ، فقالوا : لو استطعنا . وقرأ ابن عباس ابن أبي إسحاق : فتمنوا الموت بالكسر ، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد ، عن أبي عمرو ، أنه قرأ : فتمنوا الموت ، بفتح الواو ، وحركها بالفتح طلبا للتخفيف ؛ لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان . وحكي أيضا عن أبي عمرو : اختلاس ضمة الواو .
( إن كنتم صادقين ) في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم . وجواب الشرط محذوف ، أي فتمنوا الموت . وعلق تمنيهم على شرط مفقود ، وهو كونهم صادقين ، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس ، فلا يقع التمني . [ ص: 311 ] والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم ، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة ، اختار أن ينتقل إليها ، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار ، وأن يصل إلى دار القرار . كما روي عمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، كعثمان ، وعلي ، وعمار ، وحذيفة ، أنهم كانوا يختارون الموت ، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة . وفي الحديث الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم : " " . لما علم من ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل . وقال لما بلغه قتل من قتل فضل الشهادة ببئر معونة : " " . وروي عن يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة . وعن عمار لما كان بصفين قال : غدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه . وعن علي أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين ، فقال : يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه سقط الموت . وكان ينشد ، وهو يقاتل الروم : عبد الله بن رواحة
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
وفي قصتي قتل عثمان ما يدل على اختيارهما الشهادة ، وذلك أن وسعيد بن جبير عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له : نقاتل عنك ؟ فقال لهم : لا ، وكان له قريب من ألف عبد ، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم ، فقال : من أغمد سيفه فهو حر . فصبر حتى قتل . وأما سعيد ، فإن الموكلين به ، لما طلبه الحجاج ، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به ، قالوا : لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح ، قالوا له : طلبك ليقتلك ، فاذهب حيث شئت ، ونحن نكون فداء . فقال : لا والله ، إني سألت ربي الشهادة ، وقد رزقنيها ، والله لا برحت . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " . وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات . ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فعلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله .