قال مجاهد وغيره : هم قوم كان بينهم وبين الرسول عهد لمدة ، فأمر أن يفي لهم . وعن : لما قرأ ابن عباس علي ( براءة ) قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم : إن الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية .
والظاهر أن قوله : إلى مدتهم ، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة . وعن : كان بقي لحي من ابن عباس كنانة تسعة أشهر ، فأتم إليهم عهدهم . وعنه أيضا : إلى مدتهم ; إلى الأربعة الأشهر التي في الآية . وهذا بعيد ; لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم ؛ إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة .
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة ، وأبو زيد ، وابن السميفع : ( ينقضوكم ) بالضاد معجمة وتناسب العهد ، وهي بمعنى قراءة الجمهور ; لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب . وهو على حذف مضاف ، أي ولم ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ; لدلالة الكلام عليه . وقال الكرماني : هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد ، إلا أن القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله : ( فأتموا إليهم ) ، والتمام ضد النقص .
وانتصب شيئا على المصدر ، أي : لا قليلا من النقص ولا كثيرا . ( ولم يظاهروا عليكم أحدا ) كما [ ص: 9 ] فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة . وتعدى ( أتوا ) بإلى لتضمنه معنى ( فأدوا ) ; أي : فأدوه تاما كاملا . وقول قتادة : إن المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله . وقوله : ( يحب المتقين ) تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى ، وأن من التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين .
( وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) تقدم الكلام على ( انسلخ ) في قوله : ( فانسلخ ) . وقال أبو الهيثم : يقال : أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ . وأنشد :
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخ الشهور وإهلال
والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها .
وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أن تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلا فضربته . ويجوز أن يعاد اللفظ معرفا بـ " أل " نحو : لقيت رجلا فضربت الرجل ، ولا يجوز أن يوصف بوصف يشعر بالمغايرة ، لو قلت : لقيت رجلا فضربت الرجل الأزرق وأنت تريد الرجل الذي لقيته لم يجز ، بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى . فإن وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلا فضربت الرجل المذكور . وهنا جاء الأشهر الحرم ; لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ; إذ التقدير : أربعة أشهر حرم ، لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفا مشعرا بالمغايرة . وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السماوات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها : " فتكون الأربعة من سنتين . وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة . " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ; السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب
وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا . وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رءوس الجبال ، والتنكيس في الآبار . وتعلق بعموم [ ص: 10 ] هذه الآية ، وأحرق علي قوما من أهل الردة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن . ولفظ ( المشركين ) عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل . وقال المثلة : يعني الذين نقصوكم وظاهروا عليكم . الزمخشري
ولفظ : ( حيث وجدتموهم ) عام في الأماكن من حل وحرم . ( وخذوهم ) عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير . ويدل على جواز أسرهم : ( واحصروهم ) ; قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد ، وقيل : استرقوهم ، وقيل : معناه : حاصروهم إن تحصنوا . وقرئ : ( فحاصروهم ) شاذا ، وهذا القول يروى عن ، وعنه أيضا : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام ، وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن . قال ابن عباس القرطبي في قوله : ( واقعدوا لهم كل مرصد ) : دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ; لأن المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أن المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق : إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال . وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أن يصالحوا على مثل ذلك .
قال : ( كل مرصد ) كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : ( الزمخشري لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) انتهى . وهذا الذي قاله ، قال : ( كل مرصد ) ظرف ، كقولك : ذهبت مذهبا ، ورده الزجاج أبو علي ; لأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا كما حكى : دخلت البيت ، وكما عسل الطريق الثعلب انتهى . وأقول : يصح انتصابه على الظرف ; لأن قوله : ( واقعدوا لهم ) ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياسا أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد . فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملا من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة " في " ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد ، فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف . وقال سيبويه الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف " على " ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر ، وأنشدوا :
تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضى علي .
( إن الله غفور رحيم فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) أي عن الكفر والغدر . والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل . ( فخلوا سبيلهم ) ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاءوا ، ولا تتعرضوا لهم ، كقول الشاعر :
خل السبيل لمن يبنى المنار به
أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر ، والظاهر الأول ; لشمول الحكم لمن كان مأسورا وغيره .
وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعا ، وأبى الله أن لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : " لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " . وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام . قال الحافظ : لا خلاف بين المسلمين أن من أبو بكر بن العربي كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئا . ومن ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ; لأنه يصير رادا على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى . والظاهر أن مفهوم الشرط لا ينتهض أن يكون دليلا على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمدا غير مستحل ومع القدرة ; لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال ترك [ ص: 11 ] الصلاة وسائر الفرائض مستحلا مكحول ، ومالك ، ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع : يقتل . وقال وأبو ثور ، ابن شهاب وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل . وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفرا ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق . قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا .
( ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) قال الضحاك والسدي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين . وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا ; لأن الله تعالى قال : ( وإن أحد من المشركين استجارك ) الآية انتهى . وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا ، والظاهر أنها محكمة .
ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم ، وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشدا طالبا للحجة والدلالة على ما يدعو إليه من الدين . فالمعنى : ( وإن أحد من المشركين استجارك ) ; أي طلب منك أن تكون مجيرا له ، وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيرا له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة .
و ( حتى ) يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع . ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره . ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقا باستجارك أو بفأجره ; وذلك لمانع لفظي وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، و ( حتى ) لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع . لكن من ذهب من النحويين إلى أن ( حتى ) تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون ( حتى ) لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور .
ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع ; لأنه الطريق إلى الفهم . وقد يراد بالسماع الفهم ، تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم . و ( كلام الله ) من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، ومأمنه : مكان أمنه . وقيل : مأمنه مصدر ; أي ثم أبلغه أمنه . وقد استدلت المعتزلة بقوله : ( حتى يسمع كلام الله ) على حدوث كلام الله ; لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات ، ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام .
وفي هذه الآية دلالة على أن النظر في التوحيد أعلى المقامات ; إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه ، وفيها دلالة على أن التقليد غير كاف في الدين ; إذ كان لا يمهل ، بل يقال له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل . وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام ، بل يبلغ مأمنه ، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله .
والخطاب [ ص: 12 ] بقوله : ( استجارك ) و ( فأجره ) يدل على أن أمان السلطان جائز ، وأما غيره : فالحر يمضي أمانه ، وقال ابن حبيب : ينظر الإمام فيه . والعبد : قال ، الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن الحسن ، ، وأبو ثور وداود : له الأمان ، وهو مشهور مذهب مالك . وقال أبو حنيفة : لا أمان له ، وهو قول في مذهب مالك . والحرة لها الأمان على قول الجمهور ، وقال : لا ، إلا أن يجيره الإمام ، وقوله شاذ . والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه ، ( عبد الملك بن الماجشون ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) ; أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام ؟ وما حقيقة ما تدعو إليه ؟ فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ، ( لا يعلمون ) نفى علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ; هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد . قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ; أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد . ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك . وقال القرطبي : وفي الآية إضمار ; أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث ؟ انتهى . والاستفهام يراد به النفي كثيرا ، ومنه قول الشاعر :
فها ذي سيوف يا هدى بن مالك كثير ولكن ليس بالسيف ضارب
أي ليس بالسيف ضارب . ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل ، وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام . قال الحوفي : ويجوز أن يكون ( الذين ) في موضع جر على البدل من المشركين ; لأن معنى ما تقدم النفي ; أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا . قال : هم ابن عباس قريش ، وقال : السدي بنو جذيمة بن الديل ، وقال : قبائل ابن إسحاق بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش . وقال : الزمخشري كبني كنانة وبني ضمرة . وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح . وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك . وضعف هذا القول بأن قريشا بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله . ( الطبري فما استقاموا لكم ) على العهد ( فاستقيموا لهم ) على الوفاء .
وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ; لقوله : ( كيف كان عاقبة مكرهم ) ، وأن يكون الخبر ( للمشركين ) . و ( عند ) على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد . وأن يكون الخبر ( عند الله ) ، و ( للمشركين ) تبيين ، أو متعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى . والظاهر أن ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية . وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله : ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) انتهى . فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم . وقال الحوفي : ( ما ) شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ( استقاموا ) ، و ( لكم ) متعلق باستقاموا ، ( فاستقيموا لهم ) الفاء جواب الشرط انتهى . فكان التقدير : فأي وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم . وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في ( فاستقيموا ) ; لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء . وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه . وقد [ ص: 13 ] ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به . فعلى قوله تكون زمانية شرطية . ( إن الله يحب المتقين ) ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد .
( يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ( كيف ) تأكيد لنفي ثباتهم على العهد . والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في ( كيف ) السابقة ، والتقدير : كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه ؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) ، وقال الشاعر :
وخبرتماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب
أي : فكيف مات وليس في قرية ؟ وقال الحطيئة :
فكيف ولم أعلمهم خذلوكم على معظم وأن أديمكم قدوا
أي فكيف تلومونني على مدحهم ؟ واستغنى عن ذلك ; لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر . وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم ؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم ؟ والواو في ( وإن يظهروا ) واو الحال . وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالا في قوله : ( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته . والمعنى : وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم . وقرأ : ( زيد بن علي وإن يظهروا ) مبنيا للمفعول .
( لا يرقبوا ) : لا يحفظوا ولا يرعوا ( إلا ) : عهدا أو قرابة أو حلفا أو سياسة أو الله تعالى ، أو جؤارا ; أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال . قال مجاهد وأبو مجلز : " إل " اسم الله بالسريانية وعرب . ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة فقال : هذا كلام لم يخرج من إل . وقرأت فرقة : " ألا " بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد . وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم الله تعالى . ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما ، قال الشاعر :
يا ليتما أمنا شالت نعامتها إيما إلى الجنة إيما إلى نار
قال : ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يئول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء ; لسكونها وانكسار ما قبلها ; أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أن الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان . ابن جني
ولما ذكر حالهم مع المؤمنين إن ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم إذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : ( يرضونكم بأفواههم ) . واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر مخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن . وقيل : ( يرضونكم بأفواههم ) في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر . وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم إلا المعصية . والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : ( وأكثرهم ) ; لأن منهم من قضى الله له بالإيمان ، وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبث الأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموما عند الناس وفي جميع الأديان . ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة . وقيل : معنى ( وأكثرهم ) وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني .