الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) : قرأ نافع وابن عامر : ( أسس بنيانه ) مبنيا للمفعول في الموضعين . وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنيا للفاعل ، وبنصب ( بنيان ) . وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل . وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم : ( أسس بنيانه ) ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضا : ( أساس ) جمع أس . وعن نصر بن عاصم : ( أسس ) بهمزة مفتوحة وسين مضمومة . وقرئ : ( إساس ) بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان . وقرئ : " أساس " بفتح الهمزة ، و " أس " بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات . وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : ( أفمن أسس ) بالتخفيف والرفع ، ( بنيانه ) بالجر على الإضافة ، فـ ( أسس ) مصدر أس الحائط يؤسه أسا وأسسا . وعن نصر أيضا : أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأس وأسس وأساس كل مصادر . انتهى . والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق . وقيل : هو جمع واحده بنيانة ، قال الشاعر :


كبنيانة القاري موضع رحلها وآثار نسعيها من الدف أبلق



وقرأ عيسى بن عمر : ( على تقوى ) بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس . قال ابن جني : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كأرطى . وقرأ جماعة ، منهم حمزة وابن عامر ، وأبو بكر : ( جرف ) بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان . وقيل : الأصل الضم . وفي مصحف أبي : ( فانهارت به قواعده في نار جهنم ) ، والظاهر أن هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء أو مسجد الرسول ، ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين . وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين . وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رئي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وقيل : هذا ضرب مثل ، أي : من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم . قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة ، وابن جريج . و ( خير ) لا شركة بين الأمرين في ( خير ) إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل .

وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ، ورسوله - خير ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله تعالى : ( فانهار به في نار جهنم ) ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل ، قيل : ( فانهار به ) على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أن الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، وكنه أمره ، والفاعل ( فانهار ) ، أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، [ ص: 101 ] أو انهار الشفا أو الجرف به ، أي : بالبنيان ، ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره . ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله .

( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا ، أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبنى ، فيكون على حذف مضاف ، أي : لا يزال بناء المبنى . قال ابن عباس : لا يزالون شاكين . وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظا في قلوبهم ، أي سبب غيظ . وقيل : كفرا في قلوبهم . وقال عطاء : نفاقا في قلوبهم . وقال ابن جبير : أسفا وندامة . وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه . وقال قتادة : في الكلام حذف ، تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة ، أي : حزازة وغيظا في قلوبهم . وقال ابن عطية : " الذي بنوا " تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه . والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك . ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام . فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء . وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر . وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة . قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوءا . والآية إنما عنت من أبطن سوءا . وليس مجمع منهم . ويحتمل أن يكون المعنى : لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم . وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق . وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سببا لها ، وكونه سببا لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلا ونهبا ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص .

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : ( إلا أن تقطع قلوبهم ) بفتح التاء ، أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنيا للمفعول . وقرئ : ( يقطع ) بالتخفيف . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : ( إلى أن نقطع ) ، وأبو حيوة : ( إلى أن تقطع ) بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب ( قلوبهم ) خطابا للرسول ، أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة . وفي مصحف عبد الله : ( ولو قطعت قلوبهم ) ، وكذلك قرأها أصحابه . وحكى أبو عمرو هذه القراءة : ( إن قطعت ) بتخفيف الطاء . وقرأ طلحة : ( ولو قطعت قلوبهم ) خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل مخاطب . وفي مصحف أبي : ( حتى الممات ) ، وفيه : ( حتى تقطع ) . فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل . وأما على من قرأه مبنيا للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت ، أي : إلى أن يموتوا . وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور . وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه . قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هما . وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه [ ص: 102 ] بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم . ( والله عليم ) بأحوالهم ، ( حكيم ) فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية