الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) تقدم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة ، حقر شأنهم في هذه الآية ، وأخبر أنهم قديما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم . وفي الأمور المقلبة أقوال : قال ابن عباس : بغوا لك الغوائل . وقال ابن جريج : وقف اثنا عشر من المنافقين على الثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به . وقال أبو سليمان الدمشقي : احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك . قال ابن جريج : كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه . ومعنى من قبل أي : من قبل هذه الغزاة ، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها . وتقليب الأمور : هو تدبيرها ظهرا لبطن ، والنظر في نواحيها وأقسامها ، والسعي بكل حيلة . وقيل : طلب المكيدة من قولهم : هو حول قلب . وقرأ مسلمة بن محارب : وقلبوا بتخفيف اللام . ( حتى جاء الحق ) ; أي : القرآن وشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم . ولفظة ( جاء ) مشعرة بأنه كان قد ذهب . ( وظهر أمر الله ) وصفه بالظهور ; لأنه كان كالمستور ; أي : غلب وعلا دين الله ، وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله . وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم ، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم ، وقلب مرادهم ، وأتى بضد مقصودهم ، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل .

( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول الله [ ص: 51 ] صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : " هل لك العام في جلاد بني الأصفر " ، وقال له وللناس : " اغزوا تغنموا بنات الأصفر " ، فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن وتفتنني ، ولا تفتني بالنساء ، هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد . وقيل : ولا تفتني ; أي ولا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك فسهل علي ، ودعني غير مختلج . وقال قريبا منه الحسن وقتادة والزجاج ، قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك . وقال الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك . وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي فتفوت علي مصالحي ويذهب أكثر ثماري . وقيل : وتفتني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : إنه قال : ولكن أعينك بمالي . ومتعلق الإذن محذوف ، تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول صلى الله عليه وسلم على نفاقه . وقرأ ورش : بتخفيف همزة ائذن لي بإبدالها واوا لضمة ما قبلها . وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على ائذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أن ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما . وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن . قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضا قراءة ابن السميقع ، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي . وجمع الشاعر بين اللغتين فقال :


لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم



والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ونفاقهم . ولفظة سقطوا تنبئ عن تمكن وقوعهم فيها . وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز ; لأن أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأن مصيرهم إليها .

( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ) قال ابن عباس : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد . وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد . ومعنى ( أمرنا ) الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة . ويحتمل أن يكون التولي حقيقة ; أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون . وقيل : أعرضوا عن الإيمان . وقيل : عن الرسول ، فيكون التولي مجازا .

( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا . وقرأ ابن مصرف أيضا وأعين قاضي الري : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ; إذ لو كان كذلك لكان صوب مضاعف العين . قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ; لأنه من ذوات الواو . وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيد وكلين . وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ; لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لحارت ; لأنها مع هل ، قال تعالى : ( هل يذهبن كيده ما يغيظ ) . انتهى . ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا [ ص: 52 ] توجيه شذوذ ; أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل الله هو الذي أصابنا وكتب - أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن - من الوعد بالنصر ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى وحكم ، ثلاثة أقوال . ( هو مولانا ) ; أي ناصرنا وحافظنا ، قاله الجمهور . وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة . وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء . فيجب الرضا بما يصدر من جهته . وقال : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه .

( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) ; أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة . فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة . وقال ابن عباس : إن الحسنيين الغنيمة والشهادة . وقيل : الأجر والغنيمة . وقيل : الشهادة والمغفرة . وفي الحديث : " تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة " . والعذاب من عند الله قال ابن عباس : هو هنا الصواعق . وقال ابن جريج : الموت . وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة . ( أو بأيدينا ) بالقتل على الكفر . فتربصوا مواعيد الشيطان ، إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن . وقال الزمخشري : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أن نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه . انتهى . وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد . وقرأ ابن محيصن إلا حدى : بإسقاط الهمزة . قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى ، وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر :


يا با المغيرة رب أمر معضل



ونحو قول الآخر :


إن لم أقاتل فالبسني برقعا



انتهى .

( قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) ; قرأ الأعمش وابن وثاب : كرها بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر . قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ . وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها . ونحوه قوله تعالى : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقوله :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة



أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت . انتهى . وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط ; أي : إن تنفقوا طوعا أو كرها لم يتقبل منكم ، وذكر الآية ، وبيت كثير على هذا المعنى . قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إن تنفقوا لن نتقبل منكم . وأما إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط . انتهى . ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى [ ص: 53 ] الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : فلن يتقبل بالفاء ; لأن لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه . ألا ترى جزمه الجواب في مثل : اقصد زيدا يحسن إليك . وانتصب ( طوعا أو كرها ) على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك . وسمي الإلزام كرها ; لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه . أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم ; لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة .

والجمهور على أن هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به . وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله . فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق . قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر . قال أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى . وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال . فكان الجمع بين استحقاقهما محالا ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : ( وما منعهم ) الآية ، وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القبول إلا الكفر . ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أن عدم القبول ليس معللا بعموم كونه فسقا ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا ، فثبت أن استدلال الجبائي باطل . انتهى . وفيه بعض تلخيص .

( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) ، ذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشئ عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه . وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون . فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا . وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا . وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالا في سائر أعمال البر ; لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذما وتقبيحا . وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد . وقرأ الأعرج بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد . وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول . وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة . قال الزمخشري : وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أن الفعل لله تعالى . انتهى . والأولى أن يكون فاعل منع قوله : إلا أنهم ; أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة ; أي : وما منعهم الله ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا . وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية