الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 308 ] ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين )

في الكلام حذف تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه ، وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله السدي . ومع : تدل على الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ، ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسأل لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له : كن في أي البيوت شئت ، فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى ، وكان يوسف - عليه السلام - قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أن لا تحباني ، وذكر ما تقدم ، وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا ، إن لهذا لأجرا فقالوا : بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .

وهذه الرؤيا التي للفتيين ، قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله ، وقال ابن مسعود والشعبي : استعملاها ليجرباه ، والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ، والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، و " رأى " الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فـ ( أراني ) فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد ، ولا يجوز أن يقول : اضربني ولا أكرمني ، وسمي العنب خمرا باعتبار ما يئول إليه ، وقيل : الخمر بلغة غسان اسم العنب ، وقيل : في لغة أزد عمـان ، وقال المعتمر : لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمرا ، أراد العنب ، وقرأ أبي وعبد الله : أعصر عنبا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما ( أعصر خمرا ) قال ابن عطية : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها ، وفي مصحف عبد الله : فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه ، وهو أيضا تفسير لا قراءة ، والضمير في تأويله عائد إلى ما قصا عليه ، أجري مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك ، وقال الجمهور : ( من المحسنين ) أي : في العلم ؛ لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم . وقال الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم . وقال ابن إسحاق : أرادا إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا إذا تأول لهما ما رأياه .

التالي السابق


الخدمات العلمية