ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام . روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق علي يوبخ العباس ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا ؟ فقال : أولكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم . ومعنى ( ما كان للمشركين ) : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب . وقال : أي ما صح وما استقام انتهى . وعمارته دخوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد ; أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به . والصلاة ثلاثة أقوال ، ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ; لقوله : ( الزمخشري وعمارة المسجد الحرام ) ، أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس [ ص: 19 ] مقدمته . ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أن كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد . ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ; لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك . وانتصب ( شاهدين ) على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته .
وقرأ : شاهدون على إضمار هم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابئ هو صابئ ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل ( على أنفسهم ) على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم ; لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدرا . زيد بن علي
( أولئك حبطت أعمالهم ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذكر أنه من الأعمال الحميدة . قال : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن ؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : ( شاهدين ) حيث جعله حالا عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى . وقوله : أو الكبيرة دسيسة اعتزال ; لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال . الزمخشري
( وفي النار هم خالدون ) ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها . وقرأ : بالياء نصبا على الحال ، و ( في النار ) هو الخبر . كما تقول : في الدار زيد قاعدا . وقال زيد بن علي الواحدي : دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم . وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر .
( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجدا لله بالتوحيد ، وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى : إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف . وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رم ما تهدم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر . ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا . وفي الحديث : ولم يذكر الإيمان بالرسول ; لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول . أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه . والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعا لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء [ ص: 20 ] الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعا للناس بان فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها . " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "
( ولم يخش إلا الله ) . قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه . وقال : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره ، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى . وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين ؛ إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها ، وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها . وقال تعالى : ( الزمخشري أن يكونوا من المهتدين ) ; أي : من الذين سبقت لهم الهداية ، ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضا من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية .
( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ) في صحيح مسلم من حديث قال : النعمان بن بشير عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية . وذكر كنت عند منبر رسول الله فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج ، وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم ابن عطية وقوله أقوالا أخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة .
وقرأ الجمهور : ( سقاية ) ( وعمارة ) ، وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية ، وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول ؛ أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني ؛ أي : كعمل من آمن . وقرأ ابن الزبير ، ، والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة ، وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في ( عمرة ) ، وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة . وكانت السقاية في بني هاشم ، وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي : " أقيموا عليها فهي لكم خير " وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة هما اللذان دفع إليهما رسول الله مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي ، وقال وعثمان بن طلحة لعثمان وشيبة : " خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم " ; يعني السدانة . ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة . ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، من الراجح منهما ، وأن الكافرين بالله هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبدا لهم فجعلوه متعبدا لأوثانهم . وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله : ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .
[ ص: 21 ] ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ) زادت هذه الآية وضوحا في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشئوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس المعرضين بالجهاد للتلف . فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، و ( أعظم ) هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم . أو يكون التقدير : أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا . وقيل : ( أعظم ) ليست على بابها ، بل هي كقوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) ، وقول حسان :
فشركما لخيركما الفداء
وكأنه قيل : عظيمون درجة . و ( عند الله ) بالمكانة لا بالمكان كقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) قال أبو عبد الله الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال ، وعلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أن من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار .
( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) قال : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم . ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيده حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا في التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات . فبدأ بالرحمة ; لأنها الوصف الأعم الناشئ عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان ; لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو بذل النفس والمال ، وقدم على الجنات ؛ لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة . وفي الحديث الصحيح : " ابن عباس " ، وأتى ثالثا بقوله : ( إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة ، هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) ; أي دائم لا ينقطع . وهذا مقابل لقوله " وهاجروا " ؛ لأنهم تركوا أوطانهم التي نشئوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد . وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل . قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم . ( برحمة ) أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف .
وقرأ ، الأعمش ، وطلحة بن مصرف : يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة . وقرأ وحميد بن هلال عاصم في رواية أبي بكر : ورضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران . وقرأ : بضم الراء والضاد معا . قال الأعمش أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى . وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء .