[ ص: 35 ] أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال :
لا در دري إن أطعمت ضائعهم قرف الحتي وعندي البر مكنوز
وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه . وقال الراجز :
على شديد لحمه كناز بات ينزيني على أوفاز
ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة . الكي : معروف ، وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد . والجبهة : معروفة ، وهي صفحة أعلى الوجه . والغار : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج . ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير . وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه . الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة . الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا : انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا : اضطررته . جمح : نفر بإسراع ، من قولهم : فرس جموح ; أي لا يرده اللجام إذا حمل . قال : والمبرد
سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد
وقال مهلهل :
وقد جمحت جماحا في دمائهم حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
وقال آخر :
إذا جمحت نساؤكم إليه أشظ كأنه مسد مغار
جمز : قفر ، وقيل : بمعنى جمح . قال رؤبة :
قاربت بين عنقي وجمزي
اللمز : قال الليث : هو كالغمز في الوجه . وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها . وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزته دفعته . الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراما لكونه شاقا ولازما .
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) لما ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصا من شأنهم وتحقيرا لهم ، وأن مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلا عن اتخاذهم أربابا لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله . واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أن ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال أتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه . وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول . وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعديا ، وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصرا .
وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين . وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم . وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان . وروي هذا القول عن عثمان [ ص: 36 ] ومعاوية . وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظا ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب . وروي العموم عن السدي أبي ذر وغيره . وقرأ ابن مصرف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم . والظاهر ذم من يكنز ولا ينفق في سبيل الله . وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث ، هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . وعن كل ما أديت زكاته فليس بكنز عمر أنه قال لرجل باع أرضا : أحرز مالك الذي أخذت ، احفر له تحت فراش امرأتك ، فقال : أليس بكنز ؟ فقال : " ما أدي زكاته فليس بكنز " . وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك . وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز ، وإن أديت زكاته . وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز . وهذان القولان يقتضيان أن الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط . وقال : هي منسوخة بقوله : " ( عمر بن عبد العزيز خذ من أموالهم صدقة ) " ، فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأن الآية تضمنت : لا تجمعوا مالا فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : ( خذ من أموالهم صدقة ) ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالا من جهة أذن له فيها ويؤدي عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه . وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم ، كعبد الرحمن بن عوف ، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ; لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن وطلحة بن عبيد الله علي كلام في الأفضل .
وقرأ أبو السمال : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال ; لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، ومن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما . والضمير في : ( ولا ينفقونها ) عائد على الذهب ; لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة ، وحذف المعطوف في هذين القولين ، أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعا ، فروعي المعنى كقوله : ( ويحيى بن يعمر وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة ( يكنزون ) . أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه ( ولا ينفقونها ) ، أو على الزكاة ; أي : ولا ينفقون زكاة الأموال ، أقوال . وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا ) وليس مثله ; لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أن الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا إن ادعى أن الواو في ( والفضة ) بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر .
( فذوقوا ما كنتم تكنزون يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم ) يقال : حميت الحديدة في النار ; أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمى أيضا فحميت . وقرأ الجمهور : ( يوم يحمى عليها ) بالياء ، أصله يحمي النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أن ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية ( تحمى ) بالتاء . وقيل : من قرأ بالياء فالمعنى : يحمى الوقود ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار . وهو الناصب ليوم أليم ، أو مضمر [ ص: 37 ] يفسره عذاب ؛ أي : يعذبون يوم يحمى . وقرأ أبو حيوة : ( فيكوى ) بالياء ، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقيا ، ووقع الفصل أيضا ذكر ، وأدغم قوم ( جباههم ) وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم ( مناسككم ) و ( ما سلككم ) . وخصت هذه المواضع بالكي قيل : لأنه في الجبهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع . وقيل : لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل . وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاث : مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم . وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم . وقال : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم . لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الزمخشري " . وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم . وأضمر القول في ( هذا ما كنزتم ) ; أي : يقال لهم وقت الكي . والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ( ما كنزتم ) ; أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم . ومعنى ( لأنفسكم ) : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذابا لكم ، وهذا القول توبيخ لهم . ( فذوقوا ما كنتم ) ; أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون . ويجوز أن تكون ما مصدرية ; أي : وبال كونكم كانزين . وقرئ ( يكنزون ) بضم النون . وفي حديث ذهب أهل الدثور بالأجور أبي ذر : " " ، وفي صحيح بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم وصحيح البخاري مسلم : " الوعيد الشديد لمانع الزكاة " .