( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول الله [ ص: 51 ] صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : " هل لك العام في جلاد بني الأصفر " ، وقال له وللناس : " اغزوا تغنموا بنات الأصفر " ، فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن وتفتنني ، ولا تفتني بالنساء ، هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد . وقيل : ولا تفتني ; أي ولا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك فسهل علي ، ودعني غير مختلج . وقال قريبا منه الحسن وقتادة ، قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك . وقال والزجاج الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك . وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي فتفوت علي مصالحي ويذهب أكثر ثماري . وقيل : وتفتني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : إنه قال : ولكن أعينك بمالي . ومتعلق الإذن محذوف ، تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول صلى الله عليه وسلم على نفاقه . وقرأ ورش : بتخفيف همزة ائذن لي بإبدالها واوا لضمة ما قبلها . وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على ائذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أن ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما . وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن . قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضا قراءة ابن السميقع ، ونسبها ابن مجاهد إلى . وجمع الشاعر بين اللغتين فقال : إسماعيل المكي
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم
والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ونفاقهم . ولفظة سقطوا تنبئ عن تمكن وقوعهم فيها . وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز ; لأن أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأن مصيرهم إليها .
( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ) قال : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد . وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد . ومعنى ( أمرنا ) الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة . ويحتمل أن يكون التولي حقيقة ; أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون . وقيل : أعرضوا عن الإيمان . وقيل : عن الرسول ، فيكون التولي مجازا . ابن عباس
( هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا . وقرأ ابن مصرف أيضا وأعين قاضي الري : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ; إذ لو كان كذلك لكان صوب مضاعف العين . قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ; لأنه من ذوات الواو . وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيد وكلين . وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ; لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت ; لأنها مع هل ، قال تعالى : ( لطلحة بن مصرف لحارت هل يذهبن كيده ما يغيظ ) . انتهى . ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا [ ص: 52 ] توجيه شذوذ ; أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل الله هو الذي أصابنا وكتب - أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن - من الوعد بالنصر ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى وحكم ، ثلاثة أقوال . ( هو مولانا ) ; أي ناصرنا وحافظنا ، قاله الجمهور . وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة . وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء . فيجب الرضا بما يصدر من جهته . وقال : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه .
( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) ; أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة . فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة . وقال : إن الحسنيين الغنيمة والشهادة . وقيل : الأجر والغنيمة . وقيل : الشهادة والمغفرة . وفي الحديث : " ابن عباس " . والعذاب من عند الله قال تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة : هو هنا الصواعق . وقال ابن عباس : الموت . وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على ابن جريج عاد وثمود . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة . ( أو بأيدينا ) بالقتل على الكفر . فتربصوا مواعيد الشيطان ، إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن . وقال : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أن نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه . انتهى . وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد . وقرأ الزمخشري ابن محيصن إلا حدى : بإسقاط الهمزة . قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى ، وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر :
يا با المغيرة رب أمر معضل
ونحو قول الآخر :
إن لم أقاتل فالبسني برقعا
انتهى .
( قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) ; قرأ الأعمش وابن وثاب : كرها بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر . قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ . وقال : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : ( الزمخشري قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها . ونحوه قوله تعالى : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقوله :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت . انتهى . وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط ; أي : إن تنفقوا طوعا أو كرها لم يتقبل منكم ، وذكر الآية ، وبيت كثير على هذا المعنى . قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إن تنفقوا لن نتقبل منكم . وأما إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط . انتهى . ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى [ ص: 53 ] الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : فلن يتقبل بالفاء ; لأن لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه . ألا ترى جزمه الجواب في مثل : اقصد زيدا يحسن إليك . وانتصب ( طوعا أو كرها ) على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك . وسمي الإلزام كرها ; لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه . أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم ; لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة .
والجمهور على أن هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به . وقال : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله . فقد نقل ابن عباس البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق . قال : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر . قال الزمخشري أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى . وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال . فكان الجمع بين استحقاقهما محالا ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : ( وما منعهم ) الآية ، وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القبول إلا الكفر . ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أن عدم القبول ليس معللا بعموم كونه فسقا ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا ، فثبت أن استدلال الجبائي باطل . انتهى . وفيه بعض تلخيص .
( ولا ينفقون إلا وهم كارهون وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) ، ذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشئ عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه . وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون . فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا . وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا . وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالا في سائر أعمال البر ; لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذما وتقبيحا . وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد . وقرأ بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد . وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول . وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة . قال الأعرج : وقراءة الزمخشري السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أن الفعل لله تعالى . انتهى . والأولى أن يكون فاعل منع قوله : إلا أنهم ; أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة ; أي : وما منعهم الله ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا . وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه .