( وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ) ; اللامز حرقوص بن زهير التميمي ، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 56 ] يقسم غنائم حنينفقال : اعدل يا رسول الله . الحديث . وقيل : هو ابن الجواظ المنافق ، قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم . وقيل : ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنما يعطي محمد قريشا . وقيل : رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها ، فقال : ما هذا بالعدل ؟ وهذه نزغة منافق .
والمعنى : من يعيبك في قسم الصدقات . وضمير ( ومنهم ) للمنافقين ، والكاف للرسول . وهذا الترديد بين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم ، وأن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال ، وأن رضاهم وسخطهم إنما متعلقه العطاء . والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه . وقيل : التقدير فإن أعطوا منها كثيرا يرضوا ، وإن لم يعطوا منها كثيرا بل قليلا ، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين ; لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه ، بل قد يجوز أن يتأخر نحو : إن أسلمت دخلت الجنة ، فإنما يقتضي مطلق الترتب . وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإذا الفجائية ، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها . ومفعول رضوا محذوف ; أي : رضوا ما أعطوه . وليس المعنى رضوا عن الرسول ; لأنهم منافقون ، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين ، بل للدنيا . وقرأ الجمهور : يلمزك بكسر الميم . وقرأ يعقوب عن وحماد بن سلمة ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم بضمها ، وهي قراءة المكيين ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ : يلمزك . وروى أيضا الأعمش عن حماد بن سلمة ابن كثير : يلامزك ، وهي مفاعلة من واحد . وقيل : وفر الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أهل مكة في الغنائم استعطافا لقلوبهم ، فضج المنافقون .
( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) : هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ; أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا : كفانا فضل الله ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم ، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره . وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم . وكان ذلك الفعل دليلا على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ; لأن ذلك تضمن الرضا بقسم الله والإقرار بالله وبالرسول ; إذ كانوا يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله . وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي . قال : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل الله تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون . انتهى . وقال الزمخشري : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب . وقال ابن عباس التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس . وقيل : ما آتاهم الله بالتقدير ورسوله بالقسم . انتهى . وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه . ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به . ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا ماد لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ، ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا . ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا الله لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح [ ص: 57 ] لقولهم : حسبنا الله ، فلا تغاير بينهما .