قد كنت تعرف آيات فقد جعلت إطلال إلفك بالوعساء تعتذر
وعن : أن الاعتذار هو القطع ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع ، واعتذرت المياه انقطعت ، والعذر سبب لقطع الذم . عدن بالمكان يعدن عدونا أقام ، قاله ابن الأعرابي أبو زيد . قال وابن الأعرابي الأعشى :
وإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى راجح قد عدن
وتقول العرب : تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه . وسمي المعدن معدنا لإنبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت . وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطانا ودورا .
( قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) : كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون الرسول فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا . فقال الجلاس : بل نقول بما شئنا ، فإن محمدا أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت . وقيل : نزلت في نبتل بن الحارث كان ينم حديث الرسول إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ، فقال ذلك القول . وقيل : نزلت في الجلاس وزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه ، فقالوا : لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام فقال : والله إن ما يقول محمد حق ، وأنتم لشر من الحمير ، ثم أتى رسول الله فأخبره فدعاهم ، فسألهم ، فحلفوا إن عامرا كاذب ، وحلف عامر إنهم كذبة وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب ، ونزلت هذه الآية : ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) ، فقال : رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع ، قاله الجوهري . وقال : الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كأن جملته أذن سامعة ، ونظيره قولهم للرئية : عين . وقال الشاعر : الزمخشري
قد صرت أذنا للوشاة سميعة ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
وهذا منهم تنقيص للرسول ، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع . وقيل : المعنى ذو أذن ، فهو على حذف مضاف ، قاله . وقيل : أذن حديد السمع ، ربما سمع مقالتنا . وقيل : أذن وصف بني على فعل من أذن يأذن أذنا إذا استمع ، نحو أنف وشلل وارتفع . أذن على إضمار مبتدأ ؛ أي : قل هو أذن خير لكم . وهذه الإضافة نظيرها قولهم : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح . كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن . ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك . ويدل عليه ( خير ) و ( رحمة ) في قراءة من جرها عطفا على ( خير ) أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله ، قاله ابن عباس . وقرأ الزمخشري الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في [ ص: 63 ] رواية : ( قل أذن ) بالتنوين ( خير ) بالرفع . وجوزوا في ( أذن ) أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، و " خير " خبر ثان لذلك المحذوف ، أي : هو أذن هو خير لكم ، لأنه صلى الله عليه وسلم يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم . وأن يكون ( خير ) صفة لـ ( أذن ) ، أي : أذن ذو خير لكم . أو على أن ( خيرا ) أفعل تفضيل ، أي : أكثر خيرا لكم ، وأن يكون ( أذن ) مبتدأ ، خبره ( خير ) . وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه ، قاله صاحب اللوامح ، وهو جائز على تقدير حذف وصف ، أي : أذن لا يؤاخذكم خير لكم ، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله ، ومن آمن بالله كان خائفا منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل ، ( ويؤمن للمؤمنين ) ، أي : يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ، ويصدقهم لكونهم مؤمنين ، فهم صادقون . و ( ورحمة للذين آمنوا منكم ) ، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين ؛ لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم ، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم . وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية ، ومظهرة كونه أذن خير . وتعدية ( يؤمن ) أولا بالباء ، وثانيا باللام . قال ابن قتيبة : هما زائدان ، والمعنى : يصدق الله ، ويصدق المؤمنين .
وقال : قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر ، فعدي بالباء ، وقصد الاستماع للمؤمنين ، وأن يسلم لهم ما يقولون فعدي باللام . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( الزمخشري وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) ما أغناه عن الباء ، ونحوه ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) ( آمنتم له قبل أن آذن لكم ) . انتهى . وقال ابن عطية : ( يؤمن بالله ) يصدق بالله ، ( ويؤمن للمؤمنين ) قيل : معناه ويصدق المؤمنين ، واللام زائدة كما هي في ( ردف لكم ) وقال : هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل ، كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين ، أي : وتصديقه . وقيل : يقال آمنت لك بمعنى صدقتك ، ومنه قوله : ( المبرد وما أنت بمؤمن لنا ) وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء ، فالمعنى : ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به ، وكذلك ( وما أنت بمؤمن لنا ) بما نقوله لك . انتهى . وقرأ أبي ، وعبد الله ، ، والأعمش وحمزة : ( ورحمة ) بالجر عطفا على ( خير ) ، فالجملة من ( يؤمن ) اعتراض بين المتعاطفين ، وباقي السبعة بالرفع عطفا على ( يؤمن ) ، و ( يؤمن ) صفة لـ ( أذن خير ) . : بالنصب مفعولا من أجله حذف متعلقه ، التقدير : ورحمة يأذن لكم ، فحذف لدلالة ( وابن أبي عبلة أذن خير لكم ) عليه . وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميرا على نسق ( يؤمن ) بلفظ الرسول تعظيما لشأنه ، وجمعا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوة والرسالة ، وإضافته إليه زيادة في تشريفه ، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم ، وحق لهم ذلك ( والذين يؤذون ) عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم .
( إن كانوا مؤمنين يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه ) : الظاهر أن الضمير في ( يحلفون ) عائد على الذين يقولون : ( هو أذن ) أنكروه وحلفوا أنهم ما قالوه . وقيل : عائد على الذين قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا ، فنحن شر من الحمير ، وتقدم ذكر ذلك . وقيل : عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع الرسول والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا ، قاله ابن السائب ، واختاره البيهقي . وكانوا ثلاثة وثمانين ، حلف منهم ثمانون ، فقبل الرسول أعذارهم واعترف [ ص: 64 ] منهم بالحق ثلاثة ، فأطلع الله رسوله على كذبهم ونفاقهم ، وهلكوا جميعا بآفات ، ونجا الذين صدقوا . وقيل : عائد على عبد الله بن أبي ومن معه حلفوا ألا يتخلفوا عن رسول الله وليكونوا معه على عدوه . وقال ابن عطية : المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين إنهم معهم في الدين وفي كل أمر وحرب ، وهم يبطنون النفاق ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر ، وهذا قول جماعة من أهل التأويل . واللام في ( ليرضوكم ) لام كي ، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم ، وأفرد الضمير في ( أن يرضوه ) لأنهما في حكم مرضي واحد ، إذ رضا الله هو رضا الرسول ، أو يكون في الكلام حذف . قال ابن عطية : مذهب أنهما جملتان ، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه . وهذا كقول الشاعر : سيبويه
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فيها خطوط من سواد وبلق كأنها في الجلد توليع البهق
انتهى . فقوله : " مذهب أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها " إن كان الضمير في " أنهما " عائدا على كل واحدة من الجملتين - فكيف تقول : حذفت الأولى ، ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها ؟ وإن كان الضمير عائدا على الخبر ، وهو ( سيبويه أحق أن يرضوه ) ، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون ( أن يرضوه ) مبتدأ و ( أحق ) المتقدم خبره ، لكن لا يتعين هذا القول ، إذ يجوز أن يكون الخبر مفردا بأن يكون التقدير : أحق بأن يرضوه . وعلى التقدير الأول يكون التقدير : والله إرضاؤه أحق . وقدره : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك . ( الزمخشري إن كانوا مؤمنين ) كما يزعمون ، فأحق من يرضونه الله ورسوله بالطاعة والوفاق .
( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ) ؛ أي : ألم يعلم المنافقون ؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار . وقرأ الحسن : بالتاء على الخطاب ، فالظاهر أنه التفات ، فهو خطاب للمنافقين . قيل : ويحتمل أن يكون خطابا للمؤمنين ، فيكون معنى الاستفهام التقرير . وإن كان خطابا للرسول فهو خطاب تعظيم ، والاستفهام فيه للتعجب ، والتقدير : ألا تعجب من جهلهم في محادة الله تعالى ، وفي مصحف والأعرج أبي : " ألم يعلم " . قال ابن عطية : على خطاب النبي عليه السلام . انتهى . والأولى أن يكون خطابا للسامع ، قال أهل المعاني : ألم تعلم ، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئا مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له : ألم تعلم بعد المباحث [ ص: 65 ] الظاهرة والمدة المديدة ؟ ! وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي صلى الله عليه وسلم معه ، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله . قال بعضهم : المحادة المخالفة ، حاددته خالفته ، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك : شاقه ، كان في شق غير شقه . وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح . والمحادة هنا ، قال : المخالفة . وقيل : المحاربة . وقيل : المعاندة . وقيل : المعاداة . وقيل : مجاوزة الحد في المخالفة . وهذه أقوال متقاربة . وقرأ الجمهور ( فأن له ) بالفتح ، والفاء جواب الشرط ، فتقتضي جملة ، و ( أن له ) مفرد في موضع رفع على الابتداء ، وخبره محذوف ، قدره ابن عباس مقدما نكرة ، أي : فحق أن يكون ، وقدره غيره متأخرا ، أي : فأن له نار جهنم واجب ، قاله الزمخشري الأخفش ، ورد عليه بأن ( أن ) لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر ، وهذا مذهب والجمهور . وأجاز سيبويه الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر ، فالأخفش خرج ذلك على أصله ، أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب أن له النار . قال علي بن سليمان : وقال الجرمي : ( أن ) الثانية مكررة للتوكيد ، كأن التقدير : فله نار جهنم ، وكرر ( أن ) توكيدا . وقال والمبرد : ويجوز أن يكون ( فأن له ) معطوفا على " أنه " ، على أن جواب " من " محذوف ، تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم . انتهى . فيكون ( الزمخشري فأن له نار جهنم ) في موضع نصب . وهذا الذي قدره لا يصح ، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ ، أو مضارعا مجزوما بـ " لم " ، فمن كلامهم : " أنت ظالم إن فعلت " ، ولا يجوز " إن تفعل " ، وهنا حذف جواب الشرط ، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعا مقرونا بـ " لم " ، وذلك إن جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة . وأيضا فتجد الكلام تاما دون تقدير هذا الجواب . ونقلوا عن أن " أن " بدل من " أنه " . قال سيبويه ابن عطية : وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى . والأولى في هذا الموضع : لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر . وأيضا فإن الفاء مانع البدل ، وأيضا فهي معنى آخر غير الأول ، فيقلق البدل ، وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال . انتهى . وقال أبو البقاء : وهذا - يعني البدل - ضعيف لوجهين : أحدهما : أن الفاء التي معها تمنع من ذلك ، والحكم بزيادتها ضعيف . والثاني : أن جعلها بدلا يوجب سقوط جواب الكلام . انتهى . وقيل : هو على إسقاط اللام ، أي : فلأن له نار جهنم ، فالفاء جواب الشرط ، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة ، أي : فمحادته ؛ لأن له نار جهنم . وقرأ : " فإن له " بالكسر في الهمزة ، حكاها عنه ابن أبي عبلة ، وهي قراءة أبو عمرو الداني محبوب عن الحسن ، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو ، ووجهه في العربية قوي ؛ لأن الفاء تقتضي الاستئناف ، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار ، بخلاف الفتح . وقال الشاعر :
فمن يك سائلا عني فإني وجروة لا ترود ولا تعار
وعلى هذا يجوز في " أن " بعد فاء الجزاء وجهان : الفتح ، والكسر . ذلك لأن كينونة النار له خالدا فيها هو الهوان العظيم كما قال ربنا : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) .