( فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ) : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم ، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعم في طغيانه - بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم ، وأن من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حالة مس الضر له ، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر . والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين ; كما قيل : إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي ، قاله : ابن عباس ومقاتل . وقيل : عقبة بن ربيعة . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : هما ، قاله عطاء . وقيل : النضر بن الحارث ، وأنه لا يراد به الكافر ، بل المراد الإنسان من حيث هو ، سواء كان كافرا أم عاصيا بغير الكفر . واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد ، واحتملت أن تكون لأشخاص ، إذ الإنسان جنس . والمعنى : أن الذي أصابه الضر لا يزال داعيا ملتجئا راغبا إلى الله في جميع حالاته كلها . وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض ، وهي أعظم في الدعاء وآكد ، ثم بما يليها ، وهي حالة القعود ، وهي حالة العجز عن القيام ، ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي ، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم . و ( لجنبه ) حال ، أي : مضطجعا ، ولذلك عطف عليه الحالان ، واللام على بابها عند البصريين ، والتقدير : ملقيا لجنبه ، لا بمعنى على ; خلافا لزاعمه . وذو الحال الضمير في ( دعانا ) ، والعامل فيه ( دعانا ) ، أي : دعانا ملتبسا بأحد هذه الأحوال . وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالا من الإنسان ، والعامل فيه ( مس ) . ويجوز أن يكون حالا من الفاعل في ( دعانا ) ، والعامل فيه ( دعا ) ، وهما معنيان متباينان . والضر : لفظ عام لجميع الأمراض والرزايا في النفس والمال والأحبة ، هذا قول اللغويين . وقيل : هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض . انتهى . والقول الأول قول . وضعف الزجاج أبو البقاء أن يكون ( لجنبه ) فما بعده أحوالا من الإنسان والعامل فيها مس ، قال : لأمرين : أحدهما : أن الحال على هذا واقع بعد جواب " إذا " ، وليس بالوجه . والثاني : أن المعنى كثرة دعائه في كل أحواله ، لا على الضر يصيبه في كل أحواله ، وعليه آيات كثيرة في القرآن . انتهى . وهذا الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال ، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول : [ ص: 130 ] إذا جاءنا زيد فقيرا أحسنا إليه ، فالمعنى : أحسنا إليه في حال فقره ، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء . ومعنى كشف الضر : رفعه وإزالته ، كأنه كان غطاء على الإنسان ساترا له . وقال صاحب النظم : ( وإذا مس الإنسان ) وصفه للمستقبل ، و ( فلما كشفنا ) للماضي ، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية : أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي . انتهى . والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأولى من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر . وقال مقاتل : أعرض عن الدعاء . وقيل : مر عن موقف الابتهال والتضرع ، لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به ، وهذا قريب من القول الذي قبله . والجملة من قوله : ( كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) في موضع الحال ، أي : إلى كشف ضر مسه . قال ابن عطية : وقوله ( مر ) يقتضي أن نزولها في الكفار ، ثم هي بعد تناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص ، يعني الآية : مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه . انتهى . والكاف من ( كذلك ) في موضع نصب ، أي : مثل ذلك . وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك ، و ( زين ) مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل الله ، إما على سبيل خلق ذلك واختراعه في قلوبهم ; كما يقول أهل السنة ، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة ، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته . قيل : أو النفس . وفسر ( المسرفون ) بالكافرين ، والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية ، كما يضيع المنفق ماله متجاوزا فيه الحد . ( ما كانوا يعملون ) من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات .