[ ص: 138 ]
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدا في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف ; كما تقول : سرت الطريق . انتهى . وما ذكره أبو علي لا يتعين ، بل الظاهر أن التضعيف فيه للتعدية ، لأن ( سار الرجل ) لازما أكثر من ( سرت الرجل ) متعديا ، فجعله ناشئا عن الأكثر أحسن من جعله ناشئا عن الأقل . وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف ، قال كما تقول : سرت الطريق ، فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد ، فلا يصل إليه الفعل ، غيره ( دخلت ) عند ، و ( انطلقت ) و ( ذهبت ) عند سيبويه الفراء إلا بوساطة " في " إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أن لا يتعدى إليه الفعل . وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة " في " ، إلا إن اتسع فيه ; فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بـ " في " أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة " في " . وزعم ابن الطراوة أن ( الطريق ) ظرف غير مختص ، فيصل إليه الفعل بغير وساطة " في " ، وهو زعم مردود في النحو .
ومعنى ( يسيركم ) : يجعلكم تسيرون ، والسير معروف ، وفي قوله : ( والبحر ) دلالة على جواز ركوب البحر . ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء . قال : فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد " حتى " بما في خبرها ; كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للهلاك ، والدعاء للإنجاء . انتهى . وهو حسن ، وقرأ الزمخشري أبو الدرداء وأم الدرداء : ( في الفلكي ) بزيادة ياء النسب ، وخرج ذلك على زيادتها ، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمري وزواري ، وفي العلم كقول الصلتان :
أنا الصلتاني الذي قد علمتم
وعلى إرادة النسب مرادا به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، والضمير في ( وجرين ) عائد على ( الفلك ) ، على معنى الجمع ، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفردا وجمعا ، والضمير في " بهم " عائد على الكائنين في الفلك . وهو التفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة . وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى . والذي يظهر - والله أعلم - أن حكمة الالتفات هنا هي أن قوله : ( الزمخشري هو الذي يسيركم في البر والبحر ) خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، [ ص: 139 ] والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر ، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع ، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أن الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق ; عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي . وقال ابن عطية : " بهم " خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قوله : ( كنتم في الفلك ) هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى ، فكأنه قدر مفردا غائبا يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه ) أي : أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير غائبا على اسم غائب ، فلا يكون ذلك من باب الالتفات . والباء في " بهم " و ( بريح ) . قال العكبري : تتعلق الباءان بـ ( جرين ) . انتهى . والذي يظهر أن الباء في ( بهم ) متعلقة بـ ( جرين ) تعلقها بالمفعول نحو : مررت بزيد ، وأن الباء في ( بريح ) يجوز أن تكون للمسبب ، فاختلف المدلول في الباءين ، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة ، فتتعلق بمحذوف كما تقول : جاء زيد بثيابه أي ملتبسا بها . و ( فرحوا بها ) يحتمل أن يكون معطوفا على قوله : ( وجرين بهم ) ، ويحتمل أن يكون حالا ، أي : وقد فرحوا بها . كما احتمل قوله : ( وجرين ) أن يكون معطوفا على ( كنتم ) ، وأن يكون حالا . والظاهر أن قوله : ( جاءتها ريح عاصف ) ، هو جواب " إذا " . والظاهر عود الضمير في ( جاءتها ) على الفلك ؛ لأنه هو المحدث عنه في قوله : ( وجرين بهم ) ، وقاله مقاتل : وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة ، وقاله الفراء ، وبدأ به . ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة . وقرأ الزمخشري : ( جاءتهم ) ، ومعنى ( ابن أبي عبلة من كل مكان ) من أمكنة الموج . والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين . وقيل : معناها التيقن ، ومعنى ( أحيط بهم ) أي : للهلاك ، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه ، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك . وقرأ : ( حيط بهم ) ثلاثيا ، والجملة من قوله : ( دعوا الله ) قال زيد بن علي أبو البقاء : هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط ، تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله . انتهى ، وهو كلام لا يتحصل منه شيء . وقال : جواب ( الطبري حتى إذا كنتم في الفلك ) ( جاءتها ريح عاصف ) ، وجواب قوله : ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) ( دعوا الله ) انتهى . وهو مخالف للظاهر ؛ لأن قوله : ( وظنوا ) ظاهره العطف على جواب " إذا " ؛ لأنه معطوف على ( كنتم ) ، لكنه محتمل . كما تقول : إذا زارك فلان فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه ، وكأن أداة الشرط مذكورة . وقال : هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك ، فهو ملتبس به . انتهى . وكان أستاذنا الزمخشري أبو جعفر بن الزبير يخرج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول : هو جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دعوا الله مخلصين له الدين . انتهى . ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها ، قال معناه ابن عباس وابن زيد . وقال الحسن : ( مخلصين ) لا إخلاص إيمان ، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله ، فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري . انتهى . والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم ، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء ، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم . ( لئن أنجيتنا ) ثم قسم محذوف ، وذلك القسم وما بعده محكي بقول أي قائلين . أو أجري ( دعوا ) مجرى قالوا ؛ لأنه نوع من القول ، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها . وقال الكلبي : إلى الريح العاصف .