وروي أن جبريل نقب من خصاص الباب ، ورمى في أعينهم فعموا . وقيل : أخذ قبضة من تراب وأذراها في وجوههم ، فأوصله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب ، فطمست أعينهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم . وقيل : كسروا بابه وتهجموا عليه ، ففعل بهم جبريل ما فعل .
والجملة من قوله : ( لن يصلوا إليك ) : موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه ، ولم يقدروا على ضرره ، ثم أمروه بأن يسري بأهله . وقرأ الحرميان : فأسر ، وأن أسر بوصل الألف من سرى ، وباقي السبعة : بقطعها ، وأهله : ابنتاه وطائفة يسيرة من المؤمنين . ( بقطع من الليل ) : قال : بطائفة من الليل ، وقال ابن عباس الضحاك : ببقية من آخره ، وقال قتادة : بعد مضي صدر منه ، وقال : أي : ساعة من الليل ، وقيل : بظلمة ، وقيل : إنه نصف ، وقيل : إنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين . وقال الشاعر : ابن الأعرابي
ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد
وقال : السحر ، لقوله : نجيناهم بسحر . قال محمد بن زياد ابن عطية : ويحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر . فتجتمع هذه الآية مع قوله ( إلا آل لوط نجيناهم بسحر ) ، انتهى .وقال : القطع بمعنى : القطعة مختص بالليل ، ولا يقال : عندي قطع من الثوب . وقرأ ابن الأنباري ابن كثير وأبو عمرو : ( إلا امرأتك ) بالرفع ، وباقي السبعة : بالنصب ، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله : ( بأهلك ) ، إذ قبله أمر والأمر عندهم كالواجب . ويتعين النصب على الاستثناء من ( أهلك ) في قراءة عبد الله ، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه : ( ولا يلتفت منكم أحد ) . وجوزوا أن يكون منصوبا على الاستثناء من ( أحد ) وإن كان قبله نهي ، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء ، كقراءة ابن عامر : ( ما فعلوه إلا قليلا منهم ) بالنصب ، وإن كان قبله نفي .
ووجه الرفع على أنه بدل من أحد ، وهو استثناء متصل . وقال أبو عبيد : لو كان الكلام ولا يلتفت برفع الفعل ، ولكنه نهي . فإذا استثنيت المرأة من ( أحد ) وجب أن تكون المرأة أبيح لها الالتفات ، فيفيد معنى الآية يعني أن التقدير يصير : ( إلا امرأتك ) ، فإنها لم تنه عن الالتفات .
قال ابن عطية : وهذا الاعتراض حسن يلزم أن الاستثناء من ( أحد ) رفعت التاء أو نصبت ، والانفصال عنه يترتب بكلام محكي عن وهو أن النهي إنما قصد به المبرد لوط وحده ، والالتفات منفي عنهم ، فالمعنى : أن لا تدع أحدا منهم يلتفت . وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد ، وأولئك لم يسمعوك ، فالمعنى : لا تدع أحدا من هؤلاء يقوم ، والقيام في المعنى منفي عن المشار إليهم .
وقال : وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت : واقوماه فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها ، وأن هواها إليهم ، ولم يسر بها . الزمخشري
واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين ، انتهى . وهذا وهم فاحش إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سرى بها ، أو أنه لم يسر بها ، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون القراءتان وهما من كلام الله تترتبان على التكاذب . وقيل في الاستثناء من [ ص: 249 ] الأهل إشكال من جهة المعنى ، إذ يلزم أن لا يكون سرى بها ، ولما التفتت كانت قد سرت معهم قطعا ، وزال هذا الإشكال أن يكون لم يسر بها ، ولكنها لما تبعتهم التفتت . وقيل : الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا . ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء البتة ، قال تعالى : ( فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ) فلم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى . فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، ففيه النصب والرفع .
فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر ، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القراء ، انتهى .
وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه ، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعا كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال ، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب ، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين ، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه . وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذ ذاك النصب قولا واحدا . والظاهر أن قوله ( ولا يلتفت ) من التفات البصر . وقالت فرقة : من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط .
وفي كتاب الزهراوي أن المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف بل يخرج مسرعا . والضمير في إنه : ضمير الشأن ، و ( مصيبها ) : مبتدأ ، و ( ما أصابهم ) : الخبر . ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون ( مصيبها ) : خبر إن ، و ( ما أصابهم ) فاعل به ، لأنهم يجيزون إنه قائم أخواك . ومذهب البصريين أن ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزءيها ، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم .
وقرأ عيسى بن عمر : الصبح بضم الباء . قيل : وهي لغة ، فلا يكون ذلك إتباعا وهو على حذف مضاف أي : إن موعد هلاكهم الصبح . ويروى أن لوطا عليه السلام قال : أريد أسرع من ذلك ، فقالت له الملائكة : أليس الصبح بقريب ؟ وجعل الصبح ميقاتا لهلاكهم ، لأن النفوس فيه أودع ، والراحة فيه أجمع .
ويروى أن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر ، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ، ووصل إلى إبراهيم عليهما السلام . والضمير في عاليها عائد على مدائن قوم لوط ، جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم ، وأتبعوا الحجارة من فوقهم وهي : المؤتفكات : سبع مدائن . وقيل : خمس عدها المفسرون ، وفي ضبطها إشكال ، فأهملت ذكرها . و سدوم في القرية العظمى ، وأمطرنا عليها أي : على أهلها . وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين ، وأن رجلا كان في الحرم فبقي الحجر معلقا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر .
قال أبو العالية وابن زيد : السجيل : اسم لسماء الدنيا ، وهذا ضعيف لوصفه بمنضود ، وتقدم شرحه في المفردات . وقيل : من أسجله إذا أرسله ، وقيل : مما كتب الله أن يعذب به من السجل ، وسجل لفلان . ومعنى هذه اللفظة : ماء وطين ، هذا قول ابن عباس ومجاهد و وابن جبير عكرمة والسدي وغيرهم . وذهبوا إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ . وقيل : حجر مخلوط [ ص: 250 ] بطين أي : حجر وطين ، ويمكن أن يعود هذا إلى الآجر . وقال أبو عبيدة : الشديد من الحجارة : الصلب ، مسومة عليها سيما : يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض ، قاله ابن جريج .
وقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض . وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به ، قاله الربيع .
وعن ابن عباس والحسن : بياض في حمرة . وعن أيضا : الحجر أبيض فيه نقطة سوداء ، وأسود فيه نقطة بيضاء . وعن ابن عباس عكرمة وقتادة أيضا : فيها خطوط حمر على هيئة الجزع . وقيل : وكانت مثل رءوس الإبل ، ومثل مبارك الإبل .
وقيل : قبضة الرجل . قال ابن عباس ومقاتل : معنى من عند ربك : جاءت من عند ربك . وقيل : معدة عند ربك ، قاله أبو بكر الهذلي . قال : المعنى : لزم هذا التسويم الحجارة عند الله إيذانا بنفاذ قدرته وشدة عذابه . ابن الأنباري
والظاهر أن ضمير هي عائد على القرى التي جعل الله أعاليها أسافلها ، والمعنى : أن ذوات هذه المدن كانت بين المدينة والشام ، يمر عليها قريش في مسيرهم ، فالنظر إليها وفيها فيه اعتبار واتعاظ . وقيل : هي عائدة على الحجارة ، وهي أقرب مذكور . وقال : وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد ، والظاهر عموم الظالمين . وقيل : عني به ابن عباس قريش .
وفي الحديث : ، وقيل : مشركو العرب . وقيل : قوم إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة لوط ، أي : لم تكن الحجارة تخطئهم . وفي الحديث سيكون في أواخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال والنساء بالنساء فإذا كان كذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ثم تلا ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، وإذا كان الضمير في قوله : ( وما هي ) ، عائدا على الحجارة ، فيحتمل أن يراد : بشيء بعيد ، ويحتمل أن يراد : بمكان بعيد ، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا هويت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمي ، فكأنها بمكان قريب منه .