وقيل : الآيات : التوراة ، وهذا ليس بسديد ، لأنه قال ( إلى فرعون وملئه ) ، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملئه . والسلطان المبين هو : الحجج الواضحة ، ويحتمل أن يريد بقوله : ( وسلطان مبين ) : فيها ، أي : في الآيات ، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام . ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات ، فنص عليها كما نص على جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة على سبيل التشريف بالذكر . والظاهر أن يراد بقوله : ( أمر فرعون ) أمره إياهم بالكفر وجحد معجزات موسى ، ويحتمل أن يريد : الطريق والشأن .
( وما أمر فرعون برشيد ) : نفى عنه الرشد ، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل . وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم . عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد .
ويحتمل أن يكون ( رشيد ) بمعنى راشد ، ويكون رشيد بمعنى : مرشد ، أي : بمرشد إلى خير . وكان فرعون دهريا نافيا للصانع والمعاد ، وكان [ ص: 259 ] يقول : لا إله للعالم ، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم ، فلذلك كان أمره خاليا عن الرشد بالكلية . والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، والغي ضده . ويقال : قدم زيد القوم يقدم قدما وقدوما تقدمهم والمعنى : أنه يقدم قومه المغرقين إلى النار ، وكما كان قدوة في الضلال متبعا كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه ، ويحتمل أن يكون قوله : ( برشيد ) : بحميد العاقبة ، ويكون قوله : ( يقدم قومه ) ، تفسيرا لذلك وإيضاحا ، أي : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته ؟ وعدل عن فيوردهم إلى ( فأوردهم ) لتحقق وقوعه لا محالة ، فكأنه قد وقع ، ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف .
أو هو ماض حقيقة ، أي : فأوردهم في الدنيا النار ، أي : موجبه وهو الكفر . ويبعد هذا التأويل الفاء ، والورود في هذه الآية : ورود الخلود وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله : ( ولما ورد ماء مدين ) ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم ، أي : إلى النار وفأوردهم ، فأعمل الثاني وحذف معمول الأول . والهمزة في فأوردهم للتعدية ، ورد يتعدى إلى واحد ، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين ، فتضمن واردا ومورودا . ويطلق الورد على : الوارد ، فالورد لا يكون المورود ، فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم ، فالتقدير : وبئس مكان الورد المورود ويعني به : النار . فالورد فاعل ببئس ، والمخصوص بالذم : المورود وهي : النار . ويجوز في إعراب المورود ما يجوز في زيد من قولك : بئس الرجل زيد ، وجوز ابن عطية وأبو البقاء أن يكون المورود صفة للورد ، أي : بئس مكان الورد المورود النار ، ويكون المخصوص محذوفا لفهم المعنى ، كما حذف في قوله : ( فبئس المهاد ) وهذا التخريج يبتنى على جواز وصف فاعل نعم وبئس ، وفيه خلاف . ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز ، وقال : والورد المورود الذي وردوه : شبهه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه اتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار ، لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضده ، انتهى . وقوله : والورد المورود : إطلاق الورد على المورود مجاز ، إذ نقلوا أنه يكون صدرا بمعنى : الورود ، أو بمعنى : الواردة من الإبل وتقديره : بئس الورد الذي يردونه النار ، يدل على أن المورود صفة للورد ، وأن المخصوص بالذم محذوف ، ولذلك قدره : النار . الزمخشري
وقد ذكرنا أن ذلك يبتنى على جواز وصف فاعل بئس ونعم . وقيل : التقدير : بئس القوم المورود بهم هم ، فيكون الورد عني به الجمع الوارد ، والمورود صفة لهم ، والمخصوص بالذم : الضمير المحذوف وهو هم ، فيكون ذلك ذما للواردين ، لا ذما لموضع الورود . والإشارة بقوله : ( في هذه ) إلى الدنيا وقد جاء مصرحا بها في قصة هود ، ودل عليها قوله : ( ويوم القيامة ) ، لأنه الآخرة . فيوم معطوف على موضع في هذه ، والمعنى : أنهم ألحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة .
قال الكلبي : ( في هذه لعنة ) من المؤمنين أو بالغرق ، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار . وقال مجاهد : فلهم لعنتان ، وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ، ويوم القيامة يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا ، وقبح إرفاد آخرا ، انتهى .
وهذا لا يصح لأن هذا التأويل يدل على أن يوم القيامة معمول لبئس ، وبئس لا يتصرف ، فلا يتقدم معمولها عليها ، فلو تأخر ( يوم القيامة ) صح كما قال الشاعر :
ولنعم حشو الدرع أنت إذا دعيت نزال ولج في الذعر
. وقال : بئس الرفد المرفود رفدهم ، أي : بئس العون المعان ، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة . وقيل : بئس العطاء المعطى ، انتهى . الزمخشريويظهر من كلامه أن المرفود صفة للرفد ، وأن المخصوص بالذم محذوف تقديره : رفدهم ، وما ذكر من تفسيره ، أي : بئس [ ص: 260 ] العون المعان هو قول أبي عبيدة ، وسمي العذاب رفدا على نحو قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع . وقال الكلبي : الرفد الرفادة ، أي : بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار .