لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف ، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه ليذكره عند الملك ، ( وادكر ) أي : تذكر ما سبق له مع يوسف ( بعد أمة ) أي : مدة طويلة ، والجملة من قوله : ( وادكر ) حالية ، وأصله : واذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الذال فيها فصار ادكر ، وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن : واذكر بإبدال التاء ذالا ، وإدغام الذال فيها ، وقرأ الأشهب العقيلي : ( بعد إمة ) بكسر الهمزة أي : بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل ، وقال ابن عطية : بعد نعمة أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه ، والأمة النعمة قال :
ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به فتتركه الأيام وهي كما هيا
قال الأعلم : الأمة النعمة والحال الحسنة ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي والضحاك وقتادة وأبو رجاء وشبيل بن عزرة الضبعي وربيعة بن عمرو : ( بعد أمه ) بفتح الهمزة والميم مخففة وهاء ، وكذلك قرأ ابن عمر ومجاهد وعكرمة ، واختلف عنهم ، وقرأ عكرمة وأيضا مجاهد وشبيل بن عزرة : ( بعد أمه ) بسكون الميم ، مصدر أمه على غير قياس ، وقال : ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ ، انتهى . وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى الزمخشري الفراء ، ( أنا أنبئكم بتأويله ) أي : أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي ، وقرأ الحسن : ( أنا أتيكم ) مضارع أتى من الإتيان ، وكذا في الإمام ، وفي مصحف أبي : ( فأرسلون ) أي : ابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره ، استأذن في المضي إلى يوسف ، فقال : كان في السجن في غير [ ص: 315 ] مدينة الملك ، وقيل : كان فيها ، ويرسم الناس اليوم سجن ابن عباس يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال ، وفي الكلام حذف ، التقدير : فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال : و ( الصديق ) بناء مبالغة كالشريب والسكير ، وكان قد صحبه زمانا وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وقوله : ( لعلي أرجع إلى الناس ) أي : بتفسير هذه الرؤيا ، واحترز بلفظة ( لعلي ) لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم ؛ إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم ، وقوله : ( لعلهم يعلمون ) كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا ، وقيل : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك ، فتكون لعل كالتعليل لقوله : ( أفتنا ) . قال : ( تزرعون ) إلى آخره ، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول ؛ أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ . والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : ( فذروه في سنبله ) . والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة . قال ابن عطية : ويحتمل هذا أن لا يكون غيبا ، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع ، ومعلوم أنه الأخصب ، انتهى . والظاهر أن قوله : ( تزرعون سبع سنين دأبا ) خبرا ، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد . وقال : ( تزرعون ) خبر في معنى الأمر كقوله : ( الزمخشري تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون ) وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به ، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه ، والدليل على كونه في معنى الأمن ، قوله : ( فذروه في سنبله ) انتهى ، ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أن ( تزرعون ) في معنى ازرعوا ، بل ( تزرعون ) إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين ، وأما قوله : ( فذروه ) فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه ، ومعنى ( دأبا ) : ملازمة ، كعادتكم في المزارعة ، وقرأ حفص : ( دأبا ) بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وهما مصدران لدأب ، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي : تدابون دأبا ، فهو منصوب على المصدر ، وعند المبرد بـ ( تزرعون ) بمعنى تدأبون ، وهي عنده مثل قعد القرفصاء ، وقيل : مصدر في موضع الحال ؛ أي : دائبين ، أو ذوي دأب حالا من ضمير تزرعون . و " ما " في قوله : ( فما حصدتم ) شرطية أو موصولة بـ ( ذروه في سنبله ) إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإذا بقيت فيها انحفظت ، والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم ، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر ، وقرأ السلمي : ( مما يأكلون ) بالياء على الغيبة أي : يأكل الناس ، وحذف المميز في قوله : ( سبع شداد ) أي : سبع سنين شداد ، لدلالة قوله : ( سبع سنين ) عليه ، وأسند الأكل الذي في قوله : ( يأكلن ) على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال : ( والنهار مبصرا ) ومعنى ( تحصنون ) تحرزون وتخبئون ، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ، وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور ، يغاث من الغيث ، وقيل : من الغوث ، وهو الفرج ، ففي الأول بني من ثلاثي ، وفي الثاني من رباعي ، تقول : غاثنا الله من الغيث ، وأغاثنا من الغوث ، وقرأ الأخوان : ( تعصرون ) بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالياء على الغيبة ، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه ؛ لأنه عصر للضروع ، وروي أنهم لم يعصروا شيئا مدة الجدب ، وقال أبو عبيدة وغيره ، مأخوذ من العصرة ، والعصر وهو المنجي ، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه :صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري