[ ص: 394 ] " من " موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره : كمن ييئس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من قوله : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة . ودل عليه قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء ) كما دل على القاسي ( فويل للقاسية قلوبهم ) ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) ، ( أفمن يعلم ) ، ثم قال : ( كمن هو أعمى ) . والظاهر أن قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء ) استئناف إخبار عن سوء صنيعهم وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية . نعى عليهم هذا الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها . ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها . وقال : ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ ويعطف عليه ، ( الزمخشري وجعلوا لله ) أي : وجعلوا وتمثيله ( أفمن هو ) بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء ، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده ، انتهى . وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله : ( وجعلوا لله ) أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلا . وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال : الشديد صاحب العقد : الواو في قوله تعالى : ( وجعلوا ) واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديرا لألوهيته وتصريحا بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي ؟ انتهى .
وقال ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع ؟ هذا تأويل . ويظهر أن القول مرتبط بقوله : ( وجعلوا لله شركاء ) كأن المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ( أفمن هو قائم ) المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ، حكاه القرطبي عن الضحاك . والخبر أيضا محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين . وأبعد أيضا من ذهب إلى أن قوله : ( وجعلوا ) معطوفا على ( استهزئ ) أي : استهزءوا وجعلوا ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم : ( سموهم ) أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضر ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر . وقريب من هذا قول من قال في قوله : ( قل سموهم ) ، إنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال له : سمه إن شئت ؛ أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى . ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد . والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها . وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة . وقيل : طالبوهم بالحجة على أنها آلهة . وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية ؟ وقال : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم ؟ وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا ! و ( أم ) في قوله : ( الزمخشري أم تنبئونه ) منقطعة ، وهو استفهام توبيخ . قال : بل أتنبئونه بشركاء لا [ ص: 395 ] يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : ( الزمخشري قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) انتهى . فجعل الفاعل في قوله : ( بما لا يعلم ) عائدا على الله . والعائد على ( بما ) محذوف أي : بما لا يعلمه الله . وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : ( بما لا يعلم ) عائد على ( ما ) وقررنا ذلك هناك ، وهو يتقرر هنا أيضا ؛ أي : أتنبئون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة . وذكر نفي العلم في الأرض ؛ إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السماوات أحرى . وقرأ الحسن : ( تنبئونه من أنبأ ) وقيل : المراد تقدرون أن تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ؛ لأنهم ادعوا أن لله شريكا في الأرض لا في غيرها . والظاهر في ( أم ) في قوله : ( أم بظاهر ) أنها منقطعة أيضا أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ؛ أي : إنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) وقال مجاهد : أم بظاهر من القول . وقال قتادة : بباطل من القول لا باطن له في الحقيقة . ومنه قول الشاعر :
أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أي : باطل . وقيل : ( أم ) متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله : ( ذلك قولهم بأفواههم ) ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه : ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) .وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل ؛ لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زين لهم مكرهم . وقرأ مجاهد : ( بل زين ) على البناء للفاعل ( مكرهم ) بالنصب . والجمهور : ( زين ) على البناء للمفعول ( مكرهم ) بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع . وقرأ الكوفيون : ( وصدوا ) هنا ، وفي ( غافر ) بضم الصاد مبنيا للمفعول ، فالفعل متعد . وقرأ باقي السبعة : بفتحها ، فاحتمل التعدي واللزوم ؛ أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم . وقرأ : ( وصدوا ) بكسر الصاد ، وهي كقراءة ( ابن وثاب ردت إلينا ) بكسر الراء . وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر ( وصدوا ) بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب ، انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفا على ( مكرهم ) . قال : ( الزمخشري ومن يضلل الله ) ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي . ( فما له من هاد ) فما له من واحد يقدر على هدايته ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار ، وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ؛ لأنه إحراق بالنار دائما ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) ( ومن واق ) من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :
( أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار )
( مثل الجنة ) أي : صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفع " مثل " على الابتداء في مذهب ، والخبر محذوف ؛ أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة . و ( سيبويه تجري من تحتها الأنهار ) تفسير لذلك المثل . تقول : مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى : ( وله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ، وأنكر أبو علي أن يكون ( مثل ) بمعنى صفة ، قال : إنما معناه التنبيه . وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا موجود في كلام العرب ، انتهى . ولا يمكن حذف أنها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر [ ص: 396 ] الإعراب . وتأول قوم على القرآن ( مثل مقحم ) ، وأن التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز . وحكوا عن الفراء أن العرب تقحم كثيرا المثل والمثل ، وخرج على ذلك : ( ليس كمثله شيء ) أي : كهو شيء . فقال غيرهما : الخبر : تجري ، كما تقول : صفة زيد أسمر ، وهذا أيضا لا يصح أن يكون تجري خبرا عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط " أن " ورفع الفعل ، والتقدير : أن تجري - خبر ثان - الأنهار . وقال : معناه مثل الجنة جنة تجري ، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد ، انتهى . الزجاج
وقال أبو علي : لا يصح ما قال ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشبه ؛ لأن الجنة التي قدرها جنة ، ولا تكون الصفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون المماثلة . وقرأ الزجاج علي : ( مثال الجنة ) على الجمع أي : صفاتها . وفي اللوامح على السلمي أمثال الجنة : جمع ومعناه : صفات الجنة ؛ وذلك لأنها صفات مختلفة ، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال . والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبدا ، كما قال تعالى : ( وابن مسعود لا مقطوعة ولا ممنوعة ) وقال : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع . وظلها أي : دائم البقاء والراحة ، لا تنسخه شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا ؛ أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا ؛ أي : اجتنبوا الشرك . إبراهيم التيمي