ثم قال : ولتسألن عما كنتم تعملون ; يعني : سؤال المحاسبة والمجازاة . وفيه دليل على أن الإضلال في الآية : العقاب ، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى . وقال : أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك ، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء ، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه ، ويهدي من يشاء وهو أن يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان ، يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار ، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : الزمخشري ولتسألن عما كنتم تعملون . ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملا يسألون عنه ; انتهى . قالوا : كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا تهمما بذلك ، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين . قال ابن عطية : وتردده في معاملات الناس . وقال : تأكيدا عليهم ، وإظهارا لعظم ما يرتكب منه ; انتهى . وقيل : إنما كرر لاختلاف المعنيين : لأن الأول : نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة ، وهنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق ، فكأنه قال : دخلا بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين ، وأقول : لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا ، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص ، وهو : أن تكون أمة هي أربى من أمة . وجاء النهي بقوله : ولا تتخذوا ، استئناف إنشاء عن اتخاذ الأيمان دخلا على العموم ، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة ، وقطع الحقوق المالية ، وغير ذلك . وانتصب ( الزمخشري فتزل ) على جواب النهي ، وهو استعارة لمن كان مستقيما ووقع في أمر عظيم وسقط ، لأن القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر . وقال كثير : فلما توافينا ثبت وزلت . قال : فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها ( فإن قلت ) : لم وحدت القدم ونكرت ؟ ( قلت ) : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ انتهى . ونقول : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبرا [ ص: 533 ] فيه الجمعية ، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابقا لكل فرد فرد فيفرد كقوله : ( الزمخشري وأعتدت لهن متكأ ) أفرد متكئا لما كان لوحظ في قوله ( لهن ) معنى لكل واحدة ، ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر :
فإني وجدت الضامرين متاعهم يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي : رأيت كل ضامر . ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى . ولما كان المعنى هنا : لا يتخذ كل واحد منكم ، جاء ( فتزل قدم ) مراعاة لهذا المعنى ، ثم قال : وتذوقوا ، مراعاة للمجموع ، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير . إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد فرد ، ودل على ذلك بإفراد قدم وبجمع الضمير في : وتذوقوا . و ( ما ) مصدرية في ( بما صددتم ) ، أي : بصدودكم أو بصدكم غيركم ، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها ، وذوق السوء في الدنيا . ولكم عذاب عظيم ، أي : في الآخرة . والسوء : ما يسوءهم من قتل ، ونهب ، وأسر ، وجلاء ، وغير ذلك مما يسوء .
قال ابن عطية : وقوله صددتم عن سبيل الله ، يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فسر ; قال : لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة . ولا يدل على ذلك لخصوصه ، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم . الزمخشري ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا : هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا . قال : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة الزمخشري قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثبتهم الله . ولا تشتروا : ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمنا قليلا عرضا من الدنيا يسيرا ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أن ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم . وقال ابن عطية : هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها ، وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة ، بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، وينقضي عنها ، والتي في الآخرة باقية دائمة . ودل قوله : وما عند الله باق ، على أن نعيم الجنة لا ينقطع ، وفي ذلك حجة على إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع . وقرأ جهم بن صفوان عاصم ، وابن كثير : ولنجزين ، بالنون ، وباقي السبعة ، بالياء . وصبروا : أي : جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار ، وترك المعاصي ، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون . قيل : من التنفل بالطاعات ، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها ، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختارا غير ملزوم بها . وقيل : ذكر الأحسن ترغيبا في عمله ، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن . وقيل : الأحسن هنا بمعنى الحسن ، فليس أفعل التي للتفضيل . والذي يظهر أن المراد بالأحسن هنا الصبر ، أي : وليجزين الذين صبروا بصبرهم ، أي : بجزاء صبرهم ، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه ، فالصبر هو رأسها ، فكان الأحسن لذلك . و ( من ) صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما . لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير ، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما . وهو مؤمن : جملة حالية ، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) أو يراد بمثقال ذرة من إيمان ، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين ، والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة [ ص: 534 ] أن ذلك في الدنيا ، وهو قول الجمهور ; ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم : يعني في الآخرة ، وقال الحسن ، ومجاهد ، ، وابن جبير وقتادة ، وابن زيد : ذلك في الجنة . وقال شريك : في القبر . وقال علي ، ، ووهب بن منبه ، وابن عباس والحسن في رواية عنهما هي : القناعة ، وعن ابن عباس والضحاك : الرزق الحلال ، وعنه أيضا : السعادة . وقال عكرمة : الطاعة . وقال قتادة : الرزق في يوم بيوم ، وقال : الرزق الطيب والعمل الصالح ، وقال إسماعيل بن أبي خالد أبو بكر الوراق : حلاوة الطاعة ، وقيل : العافية والكفاية ، وقيل : الرضا بالقضاء ، ذكرهما الماوردي . وقال : المؤمن مع العمل الصالح إن كان موسرا فلا مقال فيه ، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه ، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى . والفاجر إن كان معسرا فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وقال الزمخشري ابن عطية : طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب . وعاد الضمير في ( فلنحيينه ) على لفظ ( من ) مفردا ، وفي ( ولنجزينهم ) على معناها من الجمع ، فجمع . وروي عن نافع : وليجزينهم ; بالياء بدل النون ، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة . وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على ( فلنحيينه ) ، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية ، وكلتاهما محذوفتان . ولا يكون من عطف جواب على جواب ، لتغاير الإسناد ، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب ، وذلك لا يجوز . فعلى هذا لا يجوز : زيد قلت والله لأضربن هندا ولينفينها ، يريد ولينفيها زيد . فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز ، أي : وقال زيد لينفينها ، لأن لك في هذا التركيب أن تحكي لفظه ، وأن تحكي على المعنى . فمن الأول : ( وليحلفن بالله إن أردنا إلا الحسنى ) ومن الثاني : ( يحلفون بالله ما قالوا ) ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا .