( فإن قلت ) : لم لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس ؟ ( قلت ) : منع من ذلك أن الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجئ التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت ، أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل ، وفي عن نفسه ، وفي توفى ، وفي عملت ، حملا على معنى " كل " ، ولو روعي اللفظ لذكر . وقال الشاعر :
جادت عليها كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
فأنث على المعنى . وما ذكر عن : أن الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الروح : أنت كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله - عز وجل - : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما . وعن ابن عباس ، ابن عباس ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزى ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فكفرت ، فأصابها السنون والخوف . وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلا لغيرها مما يأتي بعدها . وهذا إن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية : فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب . ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون ( قرية ) من قرى الأولين . وعن حفصة : أنها المدينة . وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلا لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة . وقال : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا الزمخشري لمكة إنذارا من مثل عاقبتها ; انتهى . ولا يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ) . كانت آمنة : ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف . والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف . يأتيها رزقها : أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة . وأنعم : جمع نعمة ، كشدة وأشد . وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم ; انتهى . فيكون كبؤس [ ص: 543 ] وأبؤس . وقال : جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة ، والكفاية . قال الزمخشري أبو عبد الله الرازي : آمنة : إشارة إلى الأمن ، مطمئنة : إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازما لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها : السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) وقال : الأنعم : جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله ، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أن كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه . قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ومنه قول الشاعر :
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه . وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فاحس وذق
وقال : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس ; فما وجه صحة إيقاعها ؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول الزمخشري كثير :
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظرا إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله :
ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه ، ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكا ; انتهى . وهو كلام حسن . ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشئ عن انقطاع الرزق وبالخوف . وقدم الجوع ليلي المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ) وأما قوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدئ به وهما طريقان . وقرأ الجمهور : والخوف ، بالجر ، عطفا على الجوع . وروى العباس عن أبي عمرو : والخوف ، بالنصب ، عطفا على لباس . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل . وقال : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله : ولباس الخوف . وقرأ الزمخشري عبد الله : فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر " لباس " . والذي أقوله : إن هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضا مثل ما في سواد المصحف . وفي مصحف [ ص: 544 ] : لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقا وغربا ، ولذلك المستفيض عن أبي بن كعب أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي جاءهم . والضمير في ( بما كانوا يصنعون ) عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلا قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولا على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : ( فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) . والظاهر أن الضمير في ( ولقد جاءهم ) ، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في ( جاءهم ) لأهل تلك المدينة ، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره ، ويحتمل أن يكون لأهل مكة . وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر المثل قال : ولقد جاءهم - يعني أهل مكة - رسول منهم - يعني من أنفسهم - يعرفونه بأصله ونسبه ، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء ، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله . ولما تقدم ( فكفرت بأنعم الله ) جاء هنا : واشكروا نعمة الله . وفي البقرة جاء : ( ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ) لم يذكر من كفر نعمته فقال : ( واشكروا لله ) ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم ، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه . وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله : كلوا مما رزقناكم . وقوله : ( إنما حرم ) الآية ، تقدم تفسير مثلها في البقرة .