وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
وعن : إنه معلم الخير ، وأطلق هو ابن مسعود وعمر ذلك على معاذ فقال : كان أمة قانتا . وقال : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وعلامة ، ونسابة ، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به . وقيل : الأمة : الإمام الذي يقتدى به ، من أم يؤم ، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت ، والحنيف . ابن الأنباري شاكرا لأنعمه : روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام ، فخيلوا أن بهم جذاما فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم ، شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم . وآتيناه في الدنيا حسنة ، قال قتادة : حببه الله تعالى إلى كل الخلق ، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون ، وخصوصا كفار قريش ، فإن فخرهم إنما هو به ، وذلك بإجابة دعوته . ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) وقيل : الحسنة : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم . وقال : الذكر الحسن . وقال ابن عباس الحسن : النبوة . وقال مجاهد : لسان صدق . وقال قتادة : القبول ، وعنه تنويه الله بذكره . وقيل : الأولاد الأبرار على الكبر . وقيل : المال يصرفه في الخير والبر . ( وإنه لمن الصالحين ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة ، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ملته ، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا . قال : وأمر الفاضل باتباع المفضول ، لما كان سابقا إلى قول الصواب والعمل به . وقال ابن فورك : ثم أوحينا في ( ثم ) هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتي الزمخشري خليل الله إبراهيم - عليه السلام - من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملته ، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها ; انتهى . وأن تفسيرية ، أو في موضع المفعول . واتباع ملته ; قال قتادة : في الإسلام ، وعنه أيضا : جميع ملته إلا ما أمر بتركه . وعن : مناسك الحج . وقال عمرو بن العاص القرطبي : الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وقيل : في التبري من الأوثان . وقال قوم كان على شريعة إبراهيم ، وليس له شرع ينفرد به ، وإنما المقصود من بعثته إحياء [ ص: 548 ] شرع إبراهيم عليه السلام . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا القول ضعيف ، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : اتبع ملة إبراهيم ، كان المراد ذلك . فإن قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا له ، فيمتنع حمل قوله : أن اتبع ، على هذا المعنى ، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها .
( قلت ) : يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد ، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن ; انتهى . ولا يحتاج إلى هذا ، لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحى لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط ، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل . وكذلك هنا أخبر تعالى أن إبراهيم لم يكن مشركا ، وأمر الرسول باتباعه في ذلك ، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي ، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافرا على ذلك . وقال ابن عطية : قال : ولا يكون - يعني حنيفا - حالا من مكي إبراهيم لأنه مضاف إليه ، وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك : مررت بزيد قائما ; انتهى . أما ما حكي عن وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافا إليه ، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب ، جازت الحال منه نحو : يعجبني قيام زيد مسرعا ، وشرب السويق ملتوتا . وقال بعض النحاة : ويجوز أيضا ذلك إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه كقوله : ( مكي ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا ) أو كالجزء منه كقوله : ( ملة إبراهيم حنيفا ) وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل ، وعلى الألفية لابن مالك . وأما قول ابن عطية في رده على بقوله : وليس كما قال ، لأن الحال إلى آخره ، فقول بعيد عن قول أهل الصنعة ، لأن الباء في ( بزيد ) ليست هي العاملة في قائما ، وإنما العامل في الحال مررت ، والباء وإن عملت الجر في زيد فإن زيدا في موضع نصب بمررت ، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجرورا بالحرف . ولما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملة مكي إبراهيم عليه السلام ، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة ، فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم ، بين أن إبراهيم ولا دينه ، والسبت مصدر ، وبه سمي اليوم . وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف . قال يوم السبت لم يكن تعظيمه ، واتخاذه للعبادة من شرع : سبتت الزمخشري اليهود إذا عظمت سبتها ، والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه ، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في : ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا ، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته .
( فإن قلت ) : فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعا محلين أو محرمين ؟ ( قلت ) : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى ، ووجه آخر وهو أن موسى - عليه السلام - أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة ، وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت ، لأن بعضهم اختاره ، وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت ، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك . [ ص: 549 ] وهو يحكم بينهم يوم القيامة ، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه ، وترك الاصطياد فيه ; انتهى . وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله . وقال الكرماني : عدي جعل بعلى ، لأن اليوم صار عليهم لا لهم ، لارتكابهم المعاصي فيه ; انتهى . ولهذا قدره : إنما جعل وبال السبت . وقال الزمخشري الحسن : جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة . وقال : إن الله سبحانه قال : ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي ، فقالوا : نريد السبت ، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض ، فهو أولى بالراحة . وقرأ أبو حيوة : جعل بفتح الجيم والعين ، مبنيا للفاعل ، وعن ابن عباس ابن مسعود : أنهما قرءا إنما أنزلنا السبت ، وهي تفسير معنى لا قراءة ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، ولما استفاض عن والأعمش الأعمش أنهما قرءا كالجماعة . وابن مسعود