الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كانت له على رجل ألفان إحداهما برهن والأخرى بغير رهن فقضاه ألفا ثم اختلفا فقال القاضي هي التي في الرهن وقال المرتهن هي التي بلا رهن فالقول قول القاضي مع يمينه " .

                                                                                                                                            [ ص: 199 ] قال الماوردي : وصورة هذه المسألة في رجل عليه لرجل ألفان ، أحدهما برهن والآخر بغير رهن ، فقضاه من الألفين ألفا ، فإن جعلها قضاء في الألف التي فيها الرهن كانت كذلك ، وخرج الرهن من وثيقة المرتهن ، وإن جعلها قضاء من الألف التي ليس فيها الرهن كانت كذلك ، وكان الراهن على حاله في الألف الأخرى وثيقة للمرتهن .

                                                                                                                                            فإن دفعها مطلقة من غير أن يعينها في أي الألفين فقد اختلف أصحابنا على وجهين ، أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي : أن له أن يجعلها قضاء في أي الألفين شاء ، كما لو طلق إحدى امرأتيه من غير تعين كان له أن يعين الطلاق في أيهما شاء ، فعلى هذا إن شاء أن يجعلها قضاء من الألف التي فيها الرهن كان ذلك له ، وإن شاء أن يجعلها قضاء من الألف التي ليس فيها الرهن فذلك له .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : هو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تكون قضاء في الألفين معا ، فيكون نصفها قضاء من الألف التي فيها الرهن ، والنصف الآخر قضاء من الألف التي ليس فيها الرهن لاستواء الألفين وحصول الإبراء بالدفع ، فلم تكن إحدى الألفين أولى من الأخرى .

                                                                                                                                            فعلى هذا ولو اتفقا بعد الدفع على أن تكون الألف قضاء من إحدى الألفين فعلى وجهين .

                                                                                                                                            أحدهما : أن ذلك جائز ، وتعتبر الألف المدفوعة قضاء فيما اتفقا عليه من الألفين : لأنه لما كان له ذلك قبل الدفع جاز ذلك له بعد الدفع .

                                                                                                                                            والوجه الثاني وهو أصح ، أن ذلك لا يجوز ، لأن الإبراء قد حصل بالدفع ، فإذا كان الدفع قد جعلها من الألفين نصفين ، لم يجز أن يصير باتفاقهما قضاء من إحدى الألفين : لأنه يعتبر نقل دين بدين .

                                                                                                                                            فصل : فلو دفع الألف قضاء من إحدى الألفين ثم اختلفا ، فقال الدافع القاضي : دفعتها قضاء من الألف التي برهن ، وقال المرتهن : بل دفعتها من الألف التي بلا رهن فالقول قول الراهن القاضي : لأنه بالدفع مزيل لملكه ، فوجب أن يكون القول قوله في صفة إزالة ملكه كسائر الأملاك ، وإذا كان القول قول الراهن القاضي لم يخل حال المرتهن القابض من أحد أمرين ، إما أن يدعي على القاضي أنه صرح له عند الدفع أنها التي بلا رهن ، أو لا يدعي ذلك ، فإن ادعى أنه صرح له بذلك عند الدفع وجب على الراهن القاضي اليمين ، بالله أنه دفعها قضاء من التي فيها الرهن ، وإن لم يدع أنه صرح بذلك عند [ ص: 200 ] الدفع ، وسأل يمينه ، ففي اليمين عليه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما وهو ظاهر قول الشافعي ، أن اليمين عليه واجبة لإنكار ما ادعى عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ، أنه لا يمين عليه ، لأن عدم التصريح به يوجب الرجوع إلى مراده ، ومراده لا يعلم إلا بإخباره ، فلم يكن للقابض سبيل إلى العلم به .

                                                                                                                                            فصل : وقد يتفرع على ما ذكرنا من جهة المرتهن أن يبرئ الراهن من إحدى الألفين ، ثم يختلفان ، فيقول المرتهن : أبرأتك من الألف التي لا رهن فيها ، ويقول الراهن : بل أبرأتني من الألف التي فيها الرهن ، فالقول قول المرتهن المبرئ ، لأن الإبراء كالقضاء ، فلما كان القول قول القاضي وجب أن يكون القول قول المبرئ ثم الكلام في اليمين على ما مضى .

                                                                                                                                            فصل : وقد يتفرع على ذلك من الضمان أن يكون على رجل ألفان ، إحداهما مضمونة عنه والأخرى غير مضمونة عنه فيقضي إحدى الألفين ، ثم يختلفان ، فيقول القاضي : قضيت المضمونة عني ، ويقول القابض : بل قبضت غير المضمونة عنك ، فالقول قول القاضي مع يمينه على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            فلو أن صاحب الألفين أبرأه من إحدى الألفين ، ثم اختلفا ، فقال المبرئ ، أبرأتك من الألف التي هي غير مضمونة ، وقال من عليه الدين أبرأتني من الألف المضمونة كان القول قول المبرئ والكلام في يمينه على ما مضى ، والدعوى على ذلك مسموعة من الضامن دون المضمون عنه .

                                                                                                                                            فصل : وقد يتفرع على ذلك من الرهن والضمان أن يكون على الرجل ألفان أحدهما برهن والأخرى بضمين فيقضي إحدى الألفين ، ثم يختلف القاضي والضامن ، فيقول القاضي : قضيت عن الألف التي فيها الرهن فقد خرج الرهن وبقي الضمان ، يقول الضامن : بل قضيت الألف التي ضمنتها عنك فقد خرج الضمان وبقي الرهن ، فالقول قول القاضي لما ذكرنا والكلام في يمينه على ما مضى ، ثم لا يخلو صاحب الدين ، من أن يصدق القاضي أو الضامن ، فإن صدق القاضي كان الضمان بحاله ، وليس للضامن إحلاف صاحب الدين ، وإنما له إحلاف القاضي .

                                                                                                                                            وإن كان صاحب الدين قد صدق الضامن وكذب القاضي ، كان تصديقه مقبولا على نفسه في سقوط الضمان وبراءة الضامن ، ولا يكون مقبولا على القاضي في بقاء الرهن ، وتكون الألف الثانية له بلا رهن وضمين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية