الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الفصل الثاني وهو في من يجوز أن يتوكل لغيره فيصير وكيلا فهو أن كل من ملك التصرف في شيء تصح فيه النيابة جاز أن يكون وكيل غيره فيه .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فأحوال الناس تنقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : من يجوز تصرفه في عموم الأحوال وهو البالغ العاقل الحر الرشيد فيجوز أن يتوكل في كل ما تصح فيه الوكالة .

                                                                                                                                            فأما الفاسق فتصح وكالته فيما لا ولاية فيه .

                                                                                                                                            فأما ما فيه ولاية فضربان :

                                                                                                                                            ضرب تكون ولايته على غير الإذن فيما عليه ، كولي اليتيم فلا يصح أن يكون وكيلا له ولا قيما عليه .

                                                                                                                                            وضرب تكون ولايته على الإذن كالنكاح فإن كان التوكيل من جهة الزوج جاز أن يوكل فاسقا لأن عقد النكاح في حق الزوج لا يفتقر إلى ولاية عليه وإنما هي نيابة عنه .

                                                                                                                                            وإن كان التوكيل من جهة ولي الزوجة ففي جواز توكيله الفاسق وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز توكيله لما فيه في الولاية التي ينافيها الفسق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز توكيله لأنه مأمور وليس بمطلق الولاية .

                                                                                                                                            فأما الكافر فلا يجوز أن يتوكل فيما فيه ولاية على مسلم ولا في نكاح مسلم لا من جهة الزوج ولا من جهة الزوجة لأن نكاح المسلم لا ينعقد بكافر بحال .

                                                                                                                                            ولكن يجوز أن يكون وكيلا في نكاح كافر .

                                                                                                                                            وهل يجوز أن يكون وكيلا في طلاق مسلم ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأنه يملك الطلاق .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز لأنه لا يملك طلاق مسلمة .

                                                                                                                                            [ ص: 507 ] والقسم الثاني : لا يجوز تصرفه في عموم الأحوال وهو الصبي والمجنون فلا يصح أن يتوكلا لأحد فمن وكلهما كانت الوكالة باطلة ، فلو أن رجلا وكل عاقلا ثم جن الوكيل كان على ما ذكرنا في جنون الموكل إن استدام به إلى حال يصير مولى عليه بطل توكيله ، وإن أفاق منه قريبا بطلت وكالته على مذهب الشافعي وجازت على قول أبي العباس بن سريج .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : من يجوز تصرفهم في شيء دون شيء وهم ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : من منع التصرف لحق نفسه كالسفيه يجوز أن يتوكل فيما يجوز تصرفه فيه من الطلاق والخلع ولا يجوز أن يتوكل فيما لا يجوز التصرف فيه من بيع أو نكاح أو غيره لأنه لما بطلت عقوده بالسفه في حق نفسه كان أولى أن تبطل في حق غيره .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : من منع من إطلاق التصرف لحق غيره كالعبد الممنوع من التصرف لحق سيده لا لعدم رشده فللسيد منعه أن يتوكل لغيره فيما يجوز تصرفه فيه وما لا يجوز لما في تشاغله بالوكالة في تفويت منافع السيد ، فإن أذن له السيد جاز أن يتوكل لسيده وغير سيده ، ثم لا يخلو ما يوكل فيه من أن يكون فيه معنى من معاني الولايات كعقود البياعات والإجازة والدعوى والمخاصمات فيجوز أن يتوكل فيها ، وإن كان فيها من معاني الولايات فإن كانت على غير الموكل كالولاية على طفل أو في مال يتيم لم يجز أن يكون وكيلا فيه ، وإن كانت على الموكل كالنكاح فإن توكل من جهة الزوج صح ، وإن توكل من جهة الزوجة كان على ما ذكرنا من الوجهين ، فلو توكل العبد فيما يصح أن يكون وكيلا فيه ثم باعه السيد بطلت الوكالة لما قد ملكه المشتري من منافعه ، وسواء كان قد توكل لسيده أو لغيره فإن جدد له المشتري إذنا بالوكالة المتقدمة فهل يحتاج إلى تجديد إذن من الموكل أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا يحتاج إلى تجديد إذنه ويصير على وكالته بما تقدم من إذن موكله إذا جدد له المشتري إذنا بالوكالة لأن منعه من الوكالة إنما كان لحق المشتري فارتفع بحدوث إذنه وحده .

                                                                                                                                            والوجه الثاني وهو أصح أن الوكالة قد بطلت فلا تصح إلا بتجديد إذن من جهة الموكل لأن إبطالها قد رفع أسبابها كما أن العقد إذا بطل لم يصح بالإجازة حتى يبتدئ عقدا صحيحا .

                                                                                                                                            فأما إن أعتقه السيد فلا يخلو أن يكون وكيلا لسيده أو غير سيده فإن كان وكيلا لغير سيده لم تبطل الوكالة بعتقه وإن كان وكيلا لسيده ففي بطلان الوكالة بعتقه وجهان أحدهما لا تثبت وكالة غيره .

                                                                                                                                            [ ص: 508 ] والثاني وهو قول أبي العباس بن سريج تبطل وكالته لأنها من جهة السيد أمر فبطلت كسائر أوامره التي تبطل بعتقه .

                                                                                                                                            فأما المرأة فيجوز أن تتوكل لزوجها ، فأما غير زوجها فلا يجوز أن تتوكل إلا بإذن زوجها لما قد ملكه الزوج من الاستمتاع بها وأن له منعها من الخروج لتصرفها .

                                                                                                                                            وإن وكلها الزوج أو غيره جاز فيما سوى النكاح والطلاق .

                                                                                                                                            فإن وكلت في النكاح كان باطلا لأن المرأة لا تملك عقد النكاح .

                                                                                                                                            وإن وكلت في الطلاق كان في صحة الوكالة وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : باطلة لأنها لا تملك الطلاق .

                                                                                                                                            والثاني : جائزة لأنها لو ملكت طلاق نفسها صح فجاز أن تتوكل في طلاق غيرها ، فلو وكلت ثم طلقها الزوج كانت الوكالة على حالها سواء توكلت للزوج أو لغيره لأنها وكالة وليست أمرا يلزم امتثاله كالسيد مع عبده .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية