مسألة : قال  الشافعي   رضي الله عنه : " وإذا كان واجبا أن يحجر على من قارب البلوغ وقد عقل نظرا له وإبقاء لماله ، فكان بعد البلوغ أشد تضييعا لماله وأكثر إتلافا له لا يجب الحجر عليه ، والمعنى الذي أمر بالحجر عليه به فيه قائم " .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال :  السفيه المبذر لماله   يجب الحجر عليه وإن كان بالغا .  
وقال  أبو حنيفة   وزفر      : لا يجوز أن يبتدئ الحجر على بالغ عاقل وإن كان سفيها مبذرا ، استدلالا بأن الله عز وجل أمر بالإنفاق ونهى عن الإمساك ، فقال تعالى :  وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت      [ المنافقون : 10 ] ، وقال :  لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون      [ آل عمران : 92 ] ، فلم يجز أن يكون فعل ما ندب إليه يوجب الحجر عليه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :  ليس لك      [ ص: 355 ] من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت  فكان ذلك حثا منه على الإنفاق للمال وترك إمساكه .  
وروى  الحسن   عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  لا حجر على حر  فهذا نص ، ولأنه حر مكلف فلم يجز أن يحجر عليه كغير المبذر : ولأن من حجر عليه في عقوده حجر عليه في إقراره كالمجنون ، ومن لم يحجر عليه في إقراره لم يحجر عليه في عقوده كالرشيد .  
فلما صح إقراره على نفسه صح في ماله وعقوده .  
وتحريره قياسا أن من قبل إقراره على نفسه قبل إقراره في ماله كالرشيد .  
ولأن تصرف الإنسان في مال نفسه أقوى من تصرف غيره في ماله ، فلما لم يصح منه إبطال عقوده المستقبلة فأولى أن لا يصح في غيره أن يبطل عقوده المستقبلة .  
ودليلنا قوله تعالى :  ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها      [ النساء : 5 ] الآية ، والمراد بالسفهاء البالغون العقلاء ، لأن السفه صفة قيام لا تتوجه إلا على مكلف ، فدلت هذه الآية على استحقاق الحجر بالسفه من وجهين :  
أحدهما : قوله تعالى :  التي جعل الله لكم قياما      [ النساء : 5 ] أن جعل الله لكم القيام عليها .  
والثاني : قوله تعالى :  وارزقوهم فيها واكسوهم      [ النساء : 5 ] ولا يجوز أن يتولى ذلك الأولى .  
وقوله تعالى :  أموالكم   يعني أموالهم ، وإنما أضاف ذلك إلى الأولياء لتصرفهم فيه ، ألا ترى أنه أمر بالإنفاق عليهم منها ولا يجب الإنفاق من غير أموالهم ، وقد قال سبحانه :  فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل      [ البقرة : 282 ] .  
فأثبت الولاية على السفيه وفرق بينه وبين المجنون والصغير .  
وروى  عطاء   ، عن  سعيد   ، عن  قتادة   ، عن  أنس   ،  أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي      [ ص: 356 ] عقدته ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع فقال : يا رسول الله لا أصبر عنه ، فقال : إن كنت غير تارك فقل : لا خلابة  ، فدل هذا الحديث على استحقاق الحجر على البالغ من وجهين :  
أحدهما : أنه حجر عليه حجر مثله بأن أثبت له الخيار في عقوده ولم يجعلها منبرمة .  
والثاني : سؤالهم الحجر عليه وإمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنكار .  
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  خذوا على أيدي سفهائكم  ولا يمكن الأخذ على أيديهم إلا بالحجر عليهم .  
وروي أنه صلى الله عليه وسلم حجر على  معاذ   لأجل غرمائه فكان الحجر على السفيه لحق نفسه أولى ، ولأنه إجماع الصحابة ، وهو ما روي  أن  عثمان بن عفان   رضي الله عنه مر بأرض سبخة فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : كانت لفلان واشتراها  عبد الله بن جعفر   بستين ألف درهم ، فقال : ما يسرني أن تكون لي بنعلين ، ثم رأى  علي بن أبي طالب   فقال : لم لا تقبض على يد ابن أخيك وتحجر عليه ، فعلم  عبد الله بن جعفر   بذلك فلقي  الزبير بن العوام   وذكر له الحال ، فقال : شاركني فيها فشاركه ، ثم أقبل  علي   إلى  عثمان   رضي الله عنهما يسأله الحجر على  عبد الله   ، فقال  عثمان      : كيف أحجر على من شريكه  الزبير   ، وكان معروفا بالإمساك والاستصلاح فصارت شركته شبهة تنفي استحقاق الحجر ، فكان ذلك منهم ومن باقي الصحابة في إمساكهم إجماعا منعقدا على استحقاق الحجر على البالغ ، وروي  عن  عبد الله بن الزبير   أنه لما بلغه عن  عائشة  رضي الله عنها أنها تبذر مالها في العطايا والصلات والصدقات فقال : لتنتهين  عائشة  أو لأحجرن عليها ، فبلغ ذلك  عائشة  فحلفت أن لا تكلمه حتى ركب إليها فاعتذر لها وكفرت عن يمينها وكلمته  ، فدل على أن الحجر على البالغ مشهور فيهم ، وإن كان  ابن الزبير   وهم في موجبه ؛ لأن من صرف ماله في القرب لم يستحق به الحجر .  
وقد روي أن  مروان بن الحكم   راسل  عائشة  رضي الله عنها بمثل ذلك ، ولأن عدم التدبير ووجود التبذير يوجب ثبوت الحجر كالصغير ، ولأن ما يستدام به الحجر لاستدامته وجب إذا طرأ أن يبتدئ الحجر به كالجنون .  
فأما الجواب عن قولهم أنه تعالى أمر بالإنفاق في الآيتين المذكورتين فهو أنه أمر بالإنفاق في الطاعات دون التبذير والإنفاق في المعاصي ؛ لأنه لا يجوز أن يأمر بما نهى عنه ودل على قبحه ، وكذا الجواب عن الخبر .  
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم :  لا حجر على حر  فحديث مرسل ، ولو صح لاحتمل لا حجر عليه بغير حكم .  
وأما قياسهم على الرشيد فالمعنى فيه وجود الإصلاح منه .  
 [ ص: 357 ] وأما قياسهم بعلة أنه ممن يصح إقراره على نفسه فالمعنى فيه انتفاء التهمة عنه فيما يتعلق بنفسه ولحوقها فيما يتعلق بماله كالعبد .  
وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يجز أن يبطل ما يستقبل من عقود نفسه فأولى أن لا يجوز ذلك لغيره ، فهو أن غيره لم يبطل عقوده المستقبلة ، وإنما وقوع الحجر عليه منع من صحة العقود منه .  
				
						
						
