مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن سقط لم يجبر صاحب السفل على بنائه " .
قال الماوردي : وهذا صحيح .
إذا ، فإنه لا يخلو حالهما من أربعة أحوال : انهدم البيت الذي سفله لرجل وعلوه لآخر
أحدها : أن يتفقا على تركه مهدوما فلا اعتراض عليهما فيه .
والثاني : أن يتفقا على بنائه فذلك لهما ، ويختص صاحب السفل ببناء السفل إلى انتهاء وضع الأجذاع ، وصاحب العلو ببناء العلو إلى حيث كان من غير أن يزيد عليه ، ولا لصاحب السفل أن يأخذه بالنقصان عنه ، فلو اختلفا مع اتفاقهما أن ارتفاع السفل والعلو عشرون ذراعا ، فقال صاحب السفل : السفل خمسة عشر ذراعا ، وارتفاع العلو خمسة أذرع ، [ ص: 400 ] وقال صاحب العلو : بل ارتفاع السفل خمسة أذرع وارتفاع العلو خمسة عشر ذراعا ، فقد اختلفا على أن لصاحب السفل خمسة أذرع لا نزاع فيها ولصاحب العلو خمسة أذرع لا نزاع فيها ، واختلفا في عشرة أذرع ادعاها كل واحد منهما وأيديهما معا عليها ، فوجب أن يتحالفا عليها ، ويجعل العشرة المختلف عليها بعد أيمانهما معا بينهما نصفان ، فيصير لصاحب السفل عشرة أذرع ، ولصاحب العلو عشرة أذرع ، ثم يشتركان في بناء السفل بعد أن يختص كل واحد منهما ببناء حقه ، إلا أن يكون السقف لأحدهما فيختص الذي هو له ببنائه دون غيره .
والحال الثالثة : أن يمتنع صاحب العلو من البناء ، ويدعو صاحب السفل إليه فله أن يختص ببناء سفله ، وليس له مطالبة صاحب العلو ببناء علوه : لأنه لا حق له في بنائه ، ويقدر على الانتفاع بحقه إلا أن يكون السقف بينهما ، فيكون على ما نذكره من القولين في إجبار الشريكين على المباناة .
والحال الرابعة : وهي مسألة الكتاب أن يمتنع صاحب السفل من بنائه ويدعو صاحب العلو إليه ليبني العلو عليه ففي إجباره قولان :
وهكذا على قولين : الشريكان في حائط قد انهدم ، إذا دعي أحدهما إلى البناء وامتنع الآخر ، هل يجبر الممتنع منهما على البناء أم لا ؟
أحدهما وهو قوله في القديم وبه قال مالك : أنه يجبر الممتنع على البناء ليصل الآخر إلى حقه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : . لا ضرر ولا ضرار ، من ضار أضر الله به ، ومن شاق شق الله عليه
فلما نفى لحوق الإضرار دل على وجوب الإجبار ، ولما روي أن الضحاك بن خليفة أنبع ماء بالعريص وأراد أن يجريه إلى أرضه فلم يصل إليه إلا بعد إمراره على أرض محمد بن سلمة فامتنع محمد من ذلك ، وتخاصما إلى عمر رضي الله عنه ، فقال عمر لمحمد بن سلمة ليمرن به أو أمره على بطنك .
وروي أنه قضي على بعض الأنصار بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف ، [ ص: 401 ] للزبير بن العوام على بعض الأنصار حتى قال الأنصاري : أن كان ابن عمتك فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك
فلما جاء الخبر والأثر بمثل ما ذكرنا لزوال الضرر عن الجار دل على أن . الضرر يزال بالإجبار
ولأنه لما استحقت الشفعة لزوال الضرر بها ووجبت القسمة إذا دعي إليها أحد الشريكين لينتفي الإضرار معها كان وجوب المباناة مع ما فيها من تضاعف الضرر أولى .
والقول الثاني قاله في الجديد وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة أنه لا إجبار في ذلك ويترك كل واحد منهما إلى أن يختار البناء لقوله صلى الله عليه وسلم : " " ولأنه لا يجبر على عمارة ملكه ولا عمارة ملك غيره في حال الانفراد فوجب أن لا يجبر على عمارته في حال الاشتراك كالزرع والغراس طردا وكنفقة البهائم عكسا . لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه
ولأنه لا يخلو أن يكون الإجبار لمصلحة نفسه أو لمصلحة غيره ، وقد تقرر أنه لا يجبر على واحد منهما .
فأما الجواب عن قوله " " فهو أنه ليس استعماله في نفي الضرر عن الطالب بإدخاله على المطلوب بأولى من نفيه عن المطلوب بإدخاله على الطالب ، إذ ليس يمكن نفيه عنهما ، فتناوب الأمران فيه فسقط الاستدلال بظاهره . لا ضرر ولا ضرار
وأما حديث عمر فهو قضية في عين لا يجوز أن يستدل بعمومها ولعل إجراء المال قد كان مستحقا من قبل ؛ لأن الإجماع لا يلزم أحدا أن يجري ماء غيره على أرضه وكذلك حديث الزبير .
وأما استحقاق الشفعة لإزالة الضرر بها ، فلأنه لا يدخل على الغير إضرار بها ؛ لأنه قد يأخذ ما قدر وليس كذلك في العمارة والمباناة .
وأما القسمة فليست غرما ، وإنما هي لتمييز الملكين وإقرار الحقين ، والعمارة غرم محض فافترقا .