فصل : [ ] . لدد الخصوم
فإذا تقرر ما وصفنا من آداب مجلسه من هذه الوجوه الخمسة فكان من أحد الخصمين لدد وفي اللدد تأويلان :
أحدهما : أنه شدة الخصومة ومنه قوله تعالى وهو ألد الخصام ، [ البقرة : 204 ] . وهذا قول البصريين .
والثاني : أنه الالتواء عن الحق ومنه أخذ لدود الفم ، لأنه في أحد جانبي الفم ، [ ص: 47 ] وقد قال تعالى وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] . وهذا قول البغداديين ، فينهى القاضي الخصم عن لدده ولا يبدأه قبل النهي بزجر ولا زبر فإن كف بالنهي كف عنه ، وإن لم يكف عنه قابله وغلبه بالزجر ، والزبر قولا لا يتعداه إلى ضرب ولا حبس .
ويكون زجره وزبره معتبرا من وجهين :
أحدهما : بحسب لدده .
والثاني : على قدر منزلته .
فإن لم يكف بالزجر والزبر بعد الثانية حتى عاد إلى ثالثة جاز أن يتجاوز زواجر الكلام إلى الضرب والحبس تعزيرا وأدبا يجتهد رأيه فيه بحسب اللدود وعلى قدر المنزلة . فإن كان في لدده شتم وفحش وكان غمرا سفيها ضربه إما بالعصا أو بالنعل على مقداره . وإن كان لدده تمانعا من الحق وخروجا عن الواجب وكان ساكتا حبسه .
فإن جمع في لدده بين الأمرين جاز أن يجمع في تعزيره بين الضرب والحبس .
قد تحاكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير مع رجل من الأنصار فلما قال الأنصاري بعد حكمه عليه للزبير في شرب أرضه أنه ابن عمتك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير أمر الماء على بطنه واحبسه حتى يبلغ أصول الجدر فكان قوله أمر الماء على بطنه تعزيزا وفيه نزل قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . ؟ فكان هذا القول تعزيرا له وفيه نزل قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون [ التوبة : 58 ] . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقسم الصدقات فقال له رجل : اعدل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلك إذا لم أعدل فمن يعدل
وليكن معتدل الأحوال وقورا قال ولا ينبغي أن يكون القاضي في التعزير عسوفا خرقا ولا ضعيفا مهينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يصلح لأمور الأمة إلا رجل قوي في غير عنف لين من غير ضعف لا تأخذه في الله لومة لائم والله أعلم .