الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الفصل الثاني في العزل فهو : على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعزله الإمام المولي .

                                                                                                                                            فإن كان عزله عن اجتهاد أدى إليه ، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه ، جاز أن يعزله .

                                                                                                                                            وإن لم يؤده الاجتهاد إلى عزله لاستقلاله بالنظر في عمله على الصحة والاستقامة لم يكن له أن يعزله ؛ لأنه لا مصلحة في عزل مثله .

                                                                                                                                            فإن عزله انعزل ، وإن كان الاجتهاد بخلافه .

                                                                                                                                            لأن عزله حكم من أحكام الإمام لا يرد إذا لم يخالف نصا أو إجماعا . وعزله يكون بالقول فإن قلد غيره واقترن بتقليده شواهد العزل ، كان تقليد غيره عزلا له .

                                                                                                                                            وإن لم تقترن به شواهد العزل كان الأول على ولايته والثاني مشاركا له في نظره .

                                                                                                                                            وينعزل بعزله جميع خلفائه إن كان خاص العمل .

                                                                                                                                            ولا ينعزل من ولاه على الأيتام والوقوف من أمنائه لنظرهم في حق غيره .

                                                                                                                                            فإن نظر هذا المعزول قبل علمه بعزله ، ففي نفوذ أحكامه قولان كالوكيل إذا عقد بعد عزل موكله وقبل علمه :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أحكامه باطلة ، إذا قيل إن عقد الوكيل باطل .

                                                                                                                                            والثاني : أن أحكامه جائزة ، إذا قيل إن عقد الوكيل جائز .

                                                                                                                                            وقال بعض أصحابنا : بل أحكامه جائزة قولا واحدا ، وإن كانت عقود الوكيل على قولين .

                                                                                                                                            وفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن القاضي ناظر في حق غير المولي ، والوكيل ناظر في حق الموكل .

                                                                                                                                            والثاني : أن موت الإمام المولي لا يوجب عزل القاضي وموت الموكل موجب لعزل الوكيل ، فقوي القاضي بهذين الفرقين على الوكيل ، فصح لأجلها أحكام القاضي وإن لم تصح عقود الوكيل .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يعزل نفسه .

                                                                                                                                            فإن كان لعذر جاز اعتزاله وإن كان لغير عذر منع من الاعتزال وإن لم يجبر عليه ؛ لأن ولاية القضاء من العقود الجائزة دون اللازمة ولذلك نفذ فيه عزل الإمام وإن خالف [ ص: 334 ] الأولى ، لكن لا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه ؛ لأنه موكول لعمل يحرم عليه إضاعته .

                                                                                                                                            وعلى الإمام أن يعفيه من النظر إذا وجد غيره حتى لا يخلو العمل من ناظر .

                                                                                                                                            فإن أعفاه قبل ارتياد غيره ، جاز إن كان لا يتعذر ولم يجز إن تعذر .

                                                                                                                                            ويتم عزله باستعفائه وإعفائه ولا يتم بأحدهما .

                                                                                                                                            فإن نظر بين استعفائه وإعفائه صح نظره .

                                                                                                                                            ولا يكون قوله قد عزلت نفسي عزلا : لأن العزل يكون من المولي وهو لا يجوز أن يولي نفسه فلم يجز أن يعزلها ، وإنما هو أن يستعفي فيعفى .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن تحدث أسباب العزل وهي على ثلاثة أضرب : موت وعجز وجرح .

                                                                                                                                            فأما الموت : فهو موت المولي فلا يخلو المولي من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون إماما عام الولاية على القضاء وغيره فلا تبطل بموته ولايات القضاة ، وإن بطل بموت الموكل وكالة الوكيل ؛ لأن تولية الإمام للقاضي استنابة في حقوق المسلمين لا في حق نفسه ، بخلاف الوكيل المستناب في حق موكله .

                                                                                                                                            قد قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد قضاء مكة وصدقات أهلها فلما مات اختبأ عتاب وامتنع من القضاء فأظهره سهيل بن عمرو وقال : إن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فإن المسلمين باقون ، فعاد عتاب إلى نظره ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فصار إجماعا .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكون المولي قاضي ناحية أو صقع قد استخلف فيه من ينوب عنه في القضاء ، فيكون موته مبطلا لولايات خلفائه لمعنيين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه خاص النظر خاص العمل ، فخالف موت الإمام في عموم نظره وعموم عمله .

                                                                                                                                            والثاني : أن الإمام يقدر على استدراك الأمر في موته بتقليد غيره .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون المولي هو قاضي القضاة العام الولاية في جميع الأمصار فهو عام العمل خاص النظر .

                                                                                                                                            فعموم عمله : أنه وال على البلاد كلها .

                                                                                                                                            وخصوص نظره : أنه مقصور على القضاء دون غيره .

                                                                                                                                            فشابه الإمام في عموم عمله ، وخالفه في خصوص نظره .

                                                                                                                                            ففي انعزال القضاة بموته وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 335 ] أحدهما : لا ينعزلون لعموم نظره كالإمام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : ينعزلون بموته لخصوص نظره كقاضي إقليم .

                                                                                                                                            وأما العجز : فهو أن يحدث في القاضي عجز يمنعه من النظر فهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما يمنع من التقليد كالعمى والخرس فقد انعزل بحدوثه فيه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما لا يمنع من التقليد كالزمانة فلا ينعزل بها : لأنه يعجز بها عن النهضة ولا يعجز بها عن الحكم .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : المرض فإن أعجزه عن النهضة ولم يعجزه عن الحكم لم ينعزل به وإن أعجزه عن النهضة والحكم فإن كان مرجو الزوال لم ينعزل به ، وإن كان غير مرجو الزوال انعزل به .

                                                                                                                                            وأما الجرح : وهو الفسق فإن حدث في المولي كان كموته : لأنه ينعزل بالفسق ، كما ينعزل بالموت ، فيكون على ما مضى من اختلاف أحوال المولي .

                                                                                                                                            وإن حدث الفسق في القاضي المولى فإن استدامه مصرا عليه أنزل به .

                                                                                                                                            وإن حدث الفسق في القاضي المولي فإن استدامه مصرا عليه انعزل به .

                                                                                                                                            وإن كان إقلاعه عن ندم وتوبة ، نظر ، فإن كان فسقه قد ظهر قبل التوبة انعزل به .

                                                                                                                                            وإن لم يظهر حتى تاب منه لم ينعزل به لانتفاء العصمة عنه . وإن هفوات ذوي الهيئات مقالة قل أن يسلم منها إلا من عصم .

                                                                                                                                            وإذا انعزل بالفسق فحكم في حال انعزاله فإن كان إلزاما بإقرار صح ، وإن كان حكما بشهادة بطل .

                                                                                                                                            وعليه أن يمتنع من الحكم وينهي حاله إلى الإمام إلى من ولاه من القضاء ليقلد غيره ولا يغتر به الناس إن لم يعرفوه وتقف أحكامهم إن عرفوه .

                                                                                                                                            وهو في إنهاء حاله بين أمرين : إما أن يظهر الاستعفاف ويكتم حاله ليكون حافظا لستره ، وهو أولاهما ، وإما أن يخبر بحاله وسبب انعزاله ، وإن كره له هتك ستره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله " وإن خرج بكل واحد منهما من مأثم الإمساك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية