الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا استقر ما ذكرناه من شروط الاجتهاد المعتبرة في المجتهد تعلق به فصلان :

                                                                                                                                            أحدهما : جواز اجتهاد الأنبياء .

                                                                                                                                            والثاني : جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء .

                                                                                                                                            [ جواز اجتهاد الأنبياء ] :

                                                                                                                                            فأما اجتهاد الأنبياء فقد اختلف فيه أهل العلم .

                                                                                                                                            فذهب بعض الأئمة إلى أنه لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا ولا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد لقدرتهم على النص بنزول الوحي عليهم وقد قال الله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في إحرامه ولم يجتهد حتى نزل عليه القضاء وتوقف في اللعان حتى نزل عليه القرآن . وتوقف في ميراث الخالة والعمة حتى نزل عليه جبريل بأن لا ميراث لهما . ولو ساغ له الاجتهاد لسارع إليه ولم يتوقف .

                                                                                                                                            وذهب جمهور أهل العلم وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء أن يجتهدوا لقوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 78 - 79 ] . ولو لم يكن اجتهاد الأنبياء سائغا وكان جميع أحكامهم نصا لما أخطأ داود ولا أصاب سليمان . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتهد في أسرى بدر وفيمن اشترط رده في صلح الحديبية .

                                                                                                                                            فأما توقفه في اللعان وفي ميراث الخالة والعمة فليعلم هل ينزل عليه نص فلا يجتهد أو يتأخر عنه فيجتهد ، ولأن جواز الاجتهاد فضيلة فلم يجز أن يدفع عنها الأنبياء وإنما الوحي بحسب الأصلح .

                                                                                                                                            فإذا صح اجتهاده فقد اختلفت أصحابنا في وجوبه وجوازه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه جائز ، وليس بواجب ، لأن للأحكام أصلا هو الكتاب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه واجب عليه ، لأن الأحكام مأخوذة من سنته إذا خلا الكتاب منها .

                                                                                                                                            وعندي أن الأصح من إطلاق هذين الوجهين أن يكون اجتهاده واجبا عليه في حقوق الآدميين ، وجائزا له في حقوق الله تعالى ، لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاده ، فلزمه وإن أراد الله تعالى منه الاجتهاد في حقوقه أمره .

                                                                                                                                            [ ص: 122 ] ثم إذا اجتهد فقد اختلف أصحابنا هل يستبيح الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب ، لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من جميع أمته ، فكان اجتهاده بيانا وإيضاحا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أظهر أنه يجوز أن يجتهد برأيه ولا يرجع إلى أصل من الكتاب ، لأن سنته أصل في الشرع مثل الكتاب قد ندب الله تعالى إليها ، فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " إنما أجتهد رأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء " .

                                                                                                                                            واختلف أصحاب الشافعي في عصمة اجتهاد الأنبياء من الخطأ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم معصومون في اجتهادهم من الخطأ لتسكن النفس إلى التزام أوامرهم بانتفاء الخطأ عن اجتهادهم .

                                                                                                                                            وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه أنهم لا يجتهدون إلا عن دليل من نص .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهم غير معصومين من الخطأ فيه لوجوده منهم لكن لا يقرهم الله تعالى عليه ليزول الارتياب به وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقرا عليه ، لأن داود قد أخطأ في اجتهاده فاستدركه الله بإصابة سليمان ، واجتهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسرى بدر بعد مشاورة أبى بكر وعمر ، وأخذ منهم الفداء فأنكره الله تعالى عليه بقوله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [ الأنفال : 67 ] .

                                                                                                                                            وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه إنهم يجوز أن يجتهدوا بالرأي من غير استدلال بنص .

                                                                                                                                            وذهب ابن أبي هريرة إلى أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - معصوم الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء ، لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه لانختام النبوة به وغيره من الأنبياء قد بعث بعده من يستدرك خطأه .

                                                                                                                                            وهذا القول لا وجه له ، لأن جميع الأنبياء غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ ولا يمهلون فيه على التراخي حتى يستدركه نبي بعد نبي فاستوى فيه جميع الأنبياء .

                                                                                                                                            فهذا حكم اجتهادهم في أحكام الدين .

                                                                                                                                            فأما أمور الدنيا فيجوز على الأنبياء فيها الخطأ والسهو روي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ضجة بالمدينة فقال : ما هذا ؟ قيل : إنهم يلقحون النخل . فقال : وما ينفع ذلك أنهم لو تركوه لم يضرهم فبلغهم ذلك فتركوه فقل حمل النخل فقال عليه السلام : ما كان من أمر دينكم فردوه إلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به " .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية