الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ القسم الثاني وهو المفسر والمجمل ] .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو المفسر والمجمل فالمفسر هو الذي يفهم منه المراد به .

                                                                                                                                            والمجمل هو ما لم يفهم منه المراد به .

                                                                                                                                            ومثله في الكتاب قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 النساء : 4 ، 7 النور : 56 المزمل : 20 ] .

                                                                                                                                            ومثله في السنة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " .

                                                                                                                                            فإن قيل كيف جاز خطابهم بما لا يفهمونه من المجمل ؟ قيل : لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : ليكون إجماله توطئة للنفوس على قبول ما يتعقبه من البيان فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة والزكاة ببيانهما جاز أن تنفر النفوس منهما ولا تنفر من إجمالهما . والثاني : أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا ، وجعل منها خفيا : ليتفاضل الناس [ ص: 61 ] في العلم بها ، ويثابوا على الاستنباط لها . كذلك جعل منها مفسرا جليا ، وجعل منها مجملا خفيا .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فالمجمل ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقع الإجمال في الاسم المشترك .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يقع الإجمال في الحكم المبهم .

                                                                                                                                            فأما الإجمال في الاسم المشترك فمثل القرء ينطلق على كل واحد من الحيض والطهر ، والشفق ينطلق على كل واحد من الحمرة والبياض ، والذي بيده عقدة النكاح ينطلق على كل واحد من الأب والزوج .

                                                                                                                                            فإن اقترن بأحدهما بينة أخذ به ، وإن تجرد عن بينة واقترن به عرف عمل عليه .

                                                                                                                                            وإن تجرد عن بينة وعرف وجب الاجتهاد في المراد منهما وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط فصار داخلا في المجمل لخفائه وخارجا منه لإمكان استنباطه .

                                                                                                                                            وأما الإجمال في الحكم المبهم : فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان إجماله في لفظه كقوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 - النساء : 77 - النور : 56 - المزمل : 02 ] . وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] .

                                                                                                                                            والثاني : ما كان إجماله بغيره .

                                                                                                                                            مثاله من القرآن قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . والربا صنف من البيوع صار به الباقي من البيوع مجملا على قول كثير من أصحابنا ، وإن قال بعضهم هو عموم خص منه الربا .

                                                                                                                                            ومثاله من السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الصلح جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " وكلا الضربين مجمل يفتقر إلى بيان يفهم به المراد .

                                                                                                                                            فإن قيل : أفيلزم التعبد به قبل بيانه ؟ قيل : نعم ، قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن وقال له : ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم حقا يؤخذ من أغنيائهم ويرد على فقرائهم ، فتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها .

                                                                                                                                            وفي كيفية تعبدهم بالتزامه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا وبعد البيان بالتزامه مفسرا .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فالبيان يختلف باختلاف المجمل وهو ضربان :

                                                                                                                                            [ ص: 62 ] أحدهما : ما وكل العلماء إلى اجتهادهم في بيانه من غير سمع يفتقر إليه : مثل قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] . فلم يرد سمع ببيان أقل الجزية حتى اجتهد العلماء في أقلها . وكقوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . فأجمل ذكر العدد الذي تنعقد به الجمعة حتى اجتهد العلماء فيه . وكقوله تعالى في نفقة الزوجات لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ الطلاق : 7 ] . فأجمل قدر النفقة في أقلها وأوسطها وأكثرها حتى اجتهد العلماء في تقديرها فهذا ونظائره من المجمل الذي لا يفتقر إلى بيان السمع ، فبيانه ساقط عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه مأخوذ من أصول الأدلة المشهورة ، سأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة فقال : " تكفيك آية الصيف " فوكله إلى الاجتهاد ولم يصرح بالبيان .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا في هذا النوع من البيان الصادر عن الاجتهاد هل يؤخذ قياسا أو تنبيها ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يؤخذ تنبيها من لفظ المجمل وشواهد أحواله ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر في الكلالة : " تكفيك آية الصيف " فرده إليها ليستدل بما تضمنها من تنبيه وشواهد حال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز أن يؤخذ قياسا على ما استقر بيانه من نص أو إجماع لأن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قبلة الصائم فقال : أرأيت لو تمضمضت بماء فجعل القبلة بغير إنزال كالمضمضة بلا ازدراد .

                                                                                                                                            والضرب الثاني من المجمل : ما يفتقر بيانه إلى السمع ، كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] . لا يوصل إلى بيانه إلا من نص مسموع من كتاب أو سنة . فعلى هذا هل يجوز أن يتأخر بيانه وبيان تخصيص العموم عن وقت نزوله إلى وقت تنفيذه واستعماله أم لا ؟ على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : يجوز أن يؤخر بيان العموم والمجمل عن وقت النزول إلى وقت التنفيذ والاستعمال ، لأن معاذا أخر بيان الزكاة لأهل اليمن إلى الوقت الذي أخذها منهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت النزول إلى وقت التنفيذ لاختلاف أحوال الناس في الحاجة إلى البيان وليحترز بتعجيله من اخترام المنية للرسول المبين

                                                                                                                                            والوجه الثالث : يجوز تأخير بيان العموم : لأنه قبل البيان مفهوم ، ولا يجوز تأخير بيان المجمل : لأنه قبل البيان غير مفهوم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية