الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 125 ] فصل : [ وجوه الاجتهاد ] :

                                                                                                                                            وأما الفصل الثاني في وجوه الاجتهاد فهو لم يرد في الكتاب والسنة بيان حكمه ، فقد قيل إن الذي تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام مشتمل على نحو خمسمائة آية ، والذي تضمنته السنة نحو خمسمائة حديث ، ونوازل الأحكام أكثر من أن تحصى ولا تقف على هذا العدد ، ولا يجوز أن تكون الأمة مضاعة لا ترجع إلى أصل من كتاب ولا سنة توصلهم إلى العلم بأحكام النوازل ، وقد قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 4 ] ، وروى المطلب بن حنطب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما تركت شيئا مما أمركم به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما أنهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه " .

                                                                                                                                            فدلت الآية في إكمال الدين ودل الخبر في استيفاء الأوامر والنواهي ، على أن للأحكام المسكوت عنها أصولا في الكتاب والسنة يتوصل بها إلى معرفة ما أغفل بيانه فيهما وهو الاجتهاد فيما تضمنها من الأمارات الدالة ، واستخراج ما تضمنها من المعاني المستنبطة ليكون الدين قد كمل والأحكام قد وضحت ، فإن النصوص على الحوادث معدول عن استيعابه لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه شاق في الإحاطة بجميعه .

                                                                                                                                            والثاني : ليتفاضل العلماء في استنباطه .

                                                                                                                                            فصح بهذين المعنيين أن يكون الاجتهاد في الشرع أصلا يستخرج به حكم ما لم يرد فيه نص ولا انعقد عليه إجماع .

                                                                                                                                            وإذ قد مضى الاجتهاد في أعصار الأنبياء وجب أن يوضح اجتهاد العلماء فيما بعدهم ، وهو ينقسم على ثمانية أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان حكم الاجتهاد مستخرجا من معنى النص كاستخراج علة الربا من البر فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما كان مستخرجا من شبه النص كالعبد في ثبوت تملكه لتردد شبهه بالحر في أنه يملك لأنه مكلف وشبهة البهيمة في أنه لا يملك ، لأنه مملوك ، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس ، ومن لم يقل ، غير أن من لم يقل بالقياس جعله داخلا في عموم أحد الشبهين ، ومن قال بالقياس جعله ملحقا بأحد الشبهين .

                                                                                                                                            القسم الثالث : ما كان مستخرجا من عموم النص كالذي بيده عقدة النكاح في قوله إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح [ البقرة : 237 ] . يعم الأب والزوج ، والمراد به أحدهما ، وهذا صحيح يوصل إليه بالترجيح .

                                                                                                                                            [ ص: 126 ] والقسم الرابع : ما كان مستخرجا من إجمال النص كقوله في متعة الطلاق : ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [ البقرة : 236 ] . فصح الاجتهاد في إجمال قدر المتعة باعتبار حال الزوجين .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : ما كان مستخرجا من أحوال النص كقوله في متعة الحج : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [ البقرة : 196 ] . فأطلق صيام الثلاثة في الحج ، فاحتمل قبل عرفة وبعدها وأطلق صيام السبعة إذا رجع فاحتمل إذا رجع في طريقه وإذا رجع إلى بلده فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين .

                                                                                                                                            القسم السادس : ما كان مستخرجا من دلائل النص : كقوله في نفقة الزوجات : لينفق ذو سعة من سعته [ الطلاق : 7 ] . الآية فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى لكل مسكين مدان . واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء في شهر رمضان لكل مسكين مدا .

                                                                                                                                            والقسم السابع : ما كان مستخرجا من أمارات النص كاستخراج دلائل القبلة فيمن خفيت عليه من قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ النحل : 16 ] . فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم .

                                                                                                                                            والقسم الثامن : ما كان مستخرجا من غير نص ولا أصل فقد اختلف في صحة الاجتهاد فيه بغلبة الظن على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يصح الاجتهاد بغلبة الظن حتى يقترن بأصل : لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل ، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            ولذلك أنكر القول بالاستحسان : لأنه تغليب ظن بغير أصل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يصح الاجتهاد به : لأن الاجتهاد في الشرع أصل فجاز أن يستغني عن أصل ، وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس ، وفي تقديره بعشر جلدات في حال ، وبعشرين في أخرى ، وبثلاثين في أخرى ، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع .

                                                                                                                                            والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن وبين الاستحسان : أن الاستحسان يترك به القياس والاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية